من أبرز صفات العصر الذي نحيا به الآن، التراجع المخيف في القيم والمبادئ والأخلاق، والتي كان من البدهي قديماً تواجدها عند أقل الناس أخلاقاً، فما بالك عزيزي القارئ بمن هو أعلى وأكرم في أخلاقه وشمائله، ولا أعرف سبباً رئيسياً لهذا التراجع الأخلاقي بين الناس، هل هي التكنولوجيا الحديثة؟ أم تراجع دور الآباء والمعلمين ورجال الدين في التعليم والتربية والإرشاد؟، أم جناية المثقفين الذين اعتنقوا الثقافة الغربية وطبقوها على علاتها بدون النظر إلى ما يصلح منها وما لا يصلح؟، وربما تكون هذه الأمور مجتمعة هي السبب الرئيسي لهذه التراجع المؤلم، فلا نخوة ولا شهامة ولا مروءة تراها عند الصغير أو الكبير إلا قليلاً منهم.

ومن أجل ذلك دعونا نرجع قليلاً إلى الماضي المجيد، لننظر كيف كانت مروءة وأخلاق أسلافنا العرب المسلمين، لنتذكر بذلك كيف كنا وكيف صرنا ولنتعلم كيف نعود لما كنا عليه، ثم نزيد على ذلك تقدماً ومجداً ورفعة، ودائماً وأبداً يكون المثل الأعلى للبشرية في أي طبعٍ خلقي وإنساني، هو الرسول الأعظم والحبيب المكرم المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ذلك الإنسان الذي تحلى بمكارم الأخلاق منذ سنين حياته الأولى حتى انتقاله إلى جوار ربه -جل في علاه- فكيف كانت مروءة النبي -صلى الله عليه وسلم- ؟ لقد كانت كما وصفت السيدة خديجة أم المؤمنين فقالت: " والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الدهر".

فهكذا كانت حياته -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة، كريماً عفيفاً صادقاً أميناً صاحب مروءةٍ ونخوة، يصل أرحامه ويعين كل صاحب حاجة ويتصدق على كل فقيرٍ مسكين ويكون في عون كل ضعيف، حتى بعد بعثته -صلى الله عليه وسلم- بالإسلام، كان أشد ما يكون في التخلق بهذه الأخلاق، فقد رُوِي من جوانب مروءته -صلى الله عليه وسلم- أنه بعد بعثته أعان امرأة مسنة في حمل متاعها، وإيصالها لمسكنها وهي لا تعرفه، فلما قضى لها حاجتها قالت له لا أملك ما أجزيك به ولكن أنصحك، فإن بمكة رجلٌ يَزعُمُ أنه نبي ويفرق بين الابن وأبيه والزوج وزوجته فلا تصحبه ولا تتبعه، فأخبرها أنه هو ذاك الرجل فتعجبت، وعلمت أن من كانت هذه أخلاقه ومروءته لا يَصدُقُ في حقه مثل تلك الإدعاءات، وآمنت به وأسلمت.

وانظر إلى أصحابه الكرام الأماجد كيف تعلموا من أخلاقه -صلى الله عليه وسلم- ونهلوا من معينها وتجملوا بمروءته، وقد حفظ التاريخ لهم سجلاتً حافلة تتحدث عن كرم أخلاقهم ورفعة شمائلهم، فها هو سيدنا الفاروق -رضي الله عنه- في تفقده لأحوال الرعية، وجد امرأةً بأطفالٍ مساكين يبكون ولا تملك ما تطعمهم إياهـ فسألها عن حالها فقالت له أن حالها كما يرى والله بينها وبين عمرـ فما غضب منها ولا زجرها ولكن قال لها برفقٍ وما يُدرِي عمر بحالكم يرحَمُكِ الله، فقالت له يتولى أمرنا ثم ينسانا، فما لبث -رضي الله عنه- حتى أتى بدقيقٍ من بيت المال، وحمله على ظهره ليصنع لها ولأطفالها الطعام، وظل ينفخ في النار حتى يستوي، ثم أخبرها أن تذهب في اليوم التالي إلى أمير المؤمنين وستجده هناك، ليفرض لها عطاءاً من بيت المال.

وهذا عزيزي القارئ غيضٌ قليلٌ جداً من فيض، لعل وعسى أن نتذكر أخلاقنا في ظل الأحوال التي نعيش فيها الآن، فقد خاب وخسر من ظن أنه يكسب شيئاً بخسارة أخلاقه، وأحيلك عزيزي القارئ إلى قول أحمد شوقي -رحمه الله- :

فلا تَحتَقِرْ عالَمًا أَنتَ فيه

ولا تجْحَدِ الآخَرَ المُنْتَظَر

وخذْ لكَ زادينِ : من سيرة

ومن عملٍ صالحٍ يدخرَ

وكن في الطريقِ عفيفَ الخُطا

شريفَ السَّماعِ، كريمَ النظر

ولا تخْلُ من عملٍ فوقَه

تَعشْ غيرَ عَبْدٍ، ولا مُحتَقَر

وكن رجلًا إن أتوا بعده

يقولون : مرَّ وهذا الأثرْ”