كنت قد ذكرت في مقالي عن الصادق الأمين -صلى الله عليه وسلم- أنه من العجيب أن تُنتِج البيئة التي كانت عليها بلاد الحجاز، بما فيها من تناقضاتٍ أخلاقية، أمثلةً كانت مثالاً للعفة والطُهر وحسن الأخلاق والشمائل، وكان أبرزهم على الإطلاق الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- غير أن هناك المزيد من هذه الأمثلة الطيبة، مثل زيد بن عمرو بن نفيل -رضي الله عنه- والد الصحابي الجليل سعيد بن زيد، و"الباحث عن الحقيقة".

كان هذا الرجل الكريم صاحب عقلٍ وفكرٍ وتدبرٍ ويتمتع بذوقٍ وجمال، دعته كل هذه الشمائل إلى رفض العبادة التي كانت عليها قريش والعرب، وتلمَّس بنفسه طريق العبادة القويم وبحث عن الملة القويمة، ظل هكذا حتى هداه بحثه وسعيه إلى ملة جده وجد قريش جميعا الخليل إبراهيم -عليه السلام- ولذلك قصة عجيبة، نستطيع أن نرى من خلالها مظاهر همة هذا الرجل الشغوف بالبحث عن الطريق المستقيم. 

إن زيداً بن عمرو كان على علمٍ ببعض ملامح الملة الحنيفية، التي لم تَنمَحِ تماما من أذهان العرب في الحجاز، فكان ينكر شرب الخمر والذبح لغير الله على الأنصاب والأزلام، وورد عنه أنه قال في هذا الشأن مستنكرا: "الشاة خلقها الله وأنزل الماء من السماء لينبت لها الزرع والكلأ ثم تذبح لغيره"! فلم يكن يذبح دابةً على غير اسم الله، ولم يكن يأكل مما ذبح على غير اسم الله عز وجل، حتى أنه ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر عليه قبل البعثة في تجارةٍ له، فقدم له زيد الطعام وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يأكل مما ذبح على غير اسم الله أيضاً، فلما رأي زيدٌ تردده طمأنه وقال له أنه لايذبح كما تذبح قريش على غير اسم الله عز وجل.

وقد ضاق زيد بن عمرو من العيش في ظل هذه الظروف وقومه لا يستمعون إليه ويضيقون عليه، فقرر أن يخرج باحثاً عن الطريق المستقيم، وكان أول بحثه أن يقصد أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فهم الذين لا يعبدون الأصنام ويعبدون رب موسى وإبراهيم -عليهما السلام- ولذلك حكاية، ذلك أنه قصد أولاً بعض أحبار اليهود فقال لهم:

 حدثوني عن دينكم فإن رأيته حقاً اتبعته، فقالوا له لن تدخل في ديننا حتى تنال نصيبك من غضب الله، ثم ذهب إلى بعض الرهبان فقل لهم مثل مقالته لأحبار اليهود، فقالوا له:

 لن تدخل في ديننا حتى تنال نصيبك من لعنة الله، فكان رده على كِلا الرجلين "إنما أفر من ذلك" فما كان إلا أن قالا له: لانعلم لك إلا أن تتبع دين إبراهيم، فإنه لم يكن يهودياً ولا نصرانياً فقال: "اللهم اشهد بأني على دين إبراهيم".

وقد كان يعلم زيد بن عمرو من أهل الكتاب، أنه سيُبعَثُ نبي آخر الزمان وأنه سيكون في أرض العرب، فمكث مرابطاً منتظراً مبعث هذا النبي حتى يؤمن به ويتبعه، غير أن أجله كان أسبق إليه فقد مات فيما رُوِيَ على يد قطاع الطرق، فدعا ربه عند موته أن يكرم الله ولده برؤية هذا النبي واتباعه، فكان ولده هو الصاحبي الجليل أحد المبشرين بالجنة، سعيد بن زيد -رضي الله عنه- ويكفي في عِظَمِ شأن زيد بن عمرو شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- في حقه عندما سئل عنه، فقال: "إنه يُبعَثُ يوم القيامة بيني وبين عيسى بن مريم أمةً وحده".