خلق الله -تعالى- الإنسان وكرَّمه وأعلى شأنه وميزه بالعقل والتفكير، وطلب من الإنسان أن يُعمِل عقله وأن يتفكر ويتدبر، فمن ظُلمِ الإنسان لنفسه أن يهمل عقله وأن يجحد هذه النعمة العظيمة، وأن يُسلِم زمام أمره لتبعياتٍ عمياء، إلا أن لعقل الإنسان حدودٌ يقف عندها، فلا يليق أن يتسامى ليعقل الذات الإلهية، أو ليقيس بعض التشريعات الإلهية على ميزان العقل، فيقبل أو يرد على أساس ذلك، فهناك تشريعات حكمتها لا يعلمها إلا الله -عز وجل- فتُقبَل كما هي.

وفي العصر العباسي شهدت العلوم والآداب نهضةً كبرى، واطلع العرب على المؤلفات الأجنبية في العلوم والفنون، وخصوصاً الفلسفة اليونانية، فاستأسرت هذه الأخيرة لُبَّ الكثير من طلبة العلم والحكمة في هذا العصر، وللأسف الشديد أخذوها على عِلَّاتها التي تتنافى مع أصول الشريعة الإسلامية، فضلُّوا الطريق وتكونت لدينا فرقة المعتزلة، الذين يُعملون العقل في النصوص الصريحة للشريعة الإسلامية، فيقبلون ويردون على أساس ذلك، وكانت هذه الفرقة وأمثالها في كمونٍ وتستر حتى عهد الخليفة العباسي المأمون، والذي كان متأثراً بآرائهم مقتنعاً بمذهبهم ،وقام بحمل الناس قسراً على القبول بآراء المعتزلة، ومن لم يفعل فله عذابٌ أليم.

إلا أن قلةً من علماء المسلمين تصدوا لهذا البغي والإفتراء على دين الله، وثبتوا على مبدأهم، وعلى رأسم الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، صاحب العلم والحديث، والهمة العالية والخلق الكريم والنفس العفيفة الأبية، فقد كان رحمه الله متعففاً منذ صباه، فقد مات أبوه وهو يقاتل في جيش الخليفة وتركه مع أمه، ولم يكن لهم مصدر رزق يحيون عليه، فكان يعمل أجيراً ويرابط في حلقات الفقه والحديث، وكانت أمه تشجعه على ذلك، فأملها في الحياة أن يصير ولدها عالماً جليلاً ينتفع الناس بعلمه، وقد كان.

وكان -رحمه الله- زاهداً قانعاً بالقليل نهماً في طلب العلم، فسافر ليطلب الحديث في أقطار الأرض، وكان يصبر على الغربة وضيق العيش في سبيل طلب العلم، حتى ذاع صيته وعلا ذكره بين العلماء، فشهدوا له بالعلم واستحق مكانه بينهم، فلما كانت فتنة حمل الناس على القول بأن القرآن الكريم ليس كلام الله -عز وجل- وأنه مخلوق، كان من أوائل العلماء الذين رفضوا هذا القول وواجهه بالحجة والمنطق، وبيَّن عدم صدق هذا الرأي وأنه لا يستقيم.

وتعرض -رحمه الله- للحبس والتعذيب في عهد المأمون ثم المعتصم، وتم إخلاءُ سبيله من السجن ومنعه من التحدث إلى الناس وإقامة حلقات العلم وحبسه في داره، فلم يرجع عن رأيه بالرغم من كل ذلك، فأي إنسانٍ يتحمل كل هذا العذاب وخلاصه منه بكلمة يُقِرُّ بها، إلا أن الإمام ابن حنبل كان صاحب همةٍ عالية وعزيمةٍ صادقة، فلم يؤثر السلامة كما فعل غيره، ولكنه ثبت على رأيه ومبدأه، لأنه يعلم أن الكلمة الواحدة من عالمٍ يُقتدى به، قد تحمل الناس على ما يرضي الله أو تحملهم على غير ذلك، فاستحق أن يكون إماماً للعلماء والمجاهدين والمسلمين.