تكلمنا عن بعض مظاهر الهمة في حياة الصادق الأمين -صلى الله عليه وسلم- في المقال الأول، والتي كانت متمثلةً في حياته -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة، وفي المقال الثاني تكلمنا عن بعض مظاهر همته -صلى الله عليه وسلم- في حياته في مكة بعد البعثة، وأتحدث معكم اليوم في هذا المقال عن حياته -صلى الله عليه وسلم- بعد هجرته إلى يثرب، وتنويرها بمقدمه -صلى الله عليه وسلم- حتى صارت المدينة المنورة.

وقد قدم الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وفيها مجتمع متعدد الاتجاهات، فهناك الأوس والخزرج، وهما قبيلتان يمنيتان ترجعان إلى نسبٍ، واحد إلا أن الفتن كثرت بينهما وأدت إلى حروبٍ وقتالاتٍ عديدة، وكان هناك أيضاً اليهود الذين سكنوا المدينة منذ زمنٍ بعيد، وكانوا من بقية اليهود الذين هربوا من البطش والاضطهاد، وهم بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع، ثم هناك فئة أخرى من اليهود يسكنون قريباً من المدينة، وهم أهل حصن خيبر.

لم يمكث الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، حتى حملته نفسه الكريمة وهمته العالية، وشخصيته القيادية بدعمٍ إلهيّ، على أن يرتب أحوال هذا المجتمع، وأن يضع الضوابط والقوانين التي تُنَظِّمُ الحياة فيه، فكانت وثيقة المدينة التي وضعها -صلى الله عليه وسلم- والتي اشتملت على تنظيم العلاقة بين المسلمين مهاجرين وأنصار، وتنظيم العلاقة بين المسلمين ومن جاورهم من أهل الكتاب اليهود.

وإن القدرة على تنظيم مثل هذا المجتمع وإنهاء الحروب والصراعات التي كانت بينهم، لَتَدُلُّ دلالةً واضحةً على أن واضع هذا النظام إنسانٌ عظيم صاحب همةٍ عالية، ولماذا يدل ذلك على الهمة العالية؟

ذلك أن الإنسان يواجه صعوبة في تنظيم أهل بيته وأسرته، ولا تنضبط العلاقة بين أفراد هذا البيت وهذه الأسرة التي هو ربٌ لها بشكلٍ تام، فما بالك بمن ينظم مجتمعاً كاملاً فيه مئات الأسر والأعراق المختلفة، ثم ترى هذا المجتمع يمتثل لهذا النظام وهذه التشريعات، اللهم إلا فئةً قليلةً ممن يبغون الفتنة والفساد في الأرض، ولم يمكثوا طويلاً فسرعان ما فشلوا.

ولم يَطِب المكوث كثيراً في المدينة بعد استقرار الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- والمهاجرين فيها، فلم يلبثوا حتى تعرضوا للبغي والعدوان من قريشٍ والمنافقين، ومؤامرات اليهود وصعاليك العرب، الذين سيقضي وجود دولةٍ مسلمةٍ على مقربةٍ منهم إلى ضياعهم وكسر شوكتهم، فما كان من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يُعِدَّ العدة لحربهم وقتالهم، فتعددت المعارك بينه وبينهم، تارةً تكون الغلبة للمسلمين وتارةً لغيرهم، وكانت همته -صلى الله عليه وسلم- متمثلةً في شجاعته وحسن تنظيمه، وتقديم حسن الأخلاق وتغليف القتال بغلاف الشيم الكريمة والرحمة الشاملة، ففتح القلوب قبل أن يفتح البلاد.

ولا أدل على ذلك من موقفه -صلى الله عليه وسلم- في فتح مكة، وتمكين الغلبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- ومن معه، فلم يسفك الدماء ولم ينتقم ممن آذوه وبغوا عليه، ولم يعذبهم ولم يستعبدهم، ولكنه واجههم بحسن أخلاقه وكرم شمائله وواسع عفوه، فكانت المقولة الخالدة التي فتحت القلوب: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وفي هذا العفو مع القدرة على العقاب همةٌ عالية، فمن ذا الذي يعفو عمن تسبب في إيذاءه وموت أقاربه، وتغريبه عن بلده وأهله وماله، غير إنسانٍ عظيم يحمل بين جنبيه نفسأ كريمة وهمةً عالية، حملته على تبليغ الرسالة وتقويم الملة، وحمل الناس على المنهج السليم في الحياة والتعامل فيما بينهم، فكان -صلى الله عليه وسلم- للعرب وللمسلمين بحقٍ، رسولاً من أَنفَسِهِم، عزيزٌ عليه ما يُعَنِّتُهُم، حريصٌ عليهم، بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم.