إن كل مرحلةٍ من مراحل حياة الصادق الأمين، والرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، لها مظاهر مختلفة وألوانٌ متنوعة، من الهمة العالية والعزيمة الصادقة، والنفس السوية الكريمة، وفي المقال السابق، تناولنا بعضاً من مظاهر همته -صلى الله عليه وسلم- في حياته قبل البعثة، أما عن حياته بعد البعثة، فلها ألوان مختلفة من الهمة والشمائل الكريمة.
وقد ذكرنا أن من جوانب همته -صلى الله عليه وسلم-، تحديه للصعوبات ومواجهته للعقبات والمخاطر، وكل ذلك في سبيل سلوك المنهج الإبراهيمي الحنيف في العبادة، وهو منهج التفكر والتدبر، فلم يقبل الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، عادات قومه في العبادة، لأنها ببساطة شديدة تتنافى مع الفطرة والعقل، الذي ميز الله به الإنسان عن غيره من المخلوقات، فليس من العقل أبداً، التوجه بالعبادة لآلهة يتم صنعها يدوياً، لا تملك الدفاع عن نفسها فضلاً عن غيرها، وهو بذلك يسلك مسلك جده الخليل -عليه السلام-، حينما أنكر عادات قومه في العبادة، واهتدى إلى الواحد الأحد الفرد الصمد.
ثم كان ذلك التغير الكبير في حياته -صلى الله عليه وسلم-، والنقطة الفارقة في تاريخ العرب وسائر الأمم، حينما بُعِثَ -صلى الله عليه وسلم- نبياً، وأُمِرَ بتقويم الملة السمحاء، فكان أول مظهر من مظاهر هذه الهمة، شجاعته -صلى الله عليه وسلم- في البلاغ عن ربه، ولنا أن نتصور الحالة النفسية في مثل هذا الموقف، فإذا ما أراد أحدٌ من الناس أن يدعوا لنبذ عادةٍ اجتماعية، وكانت هذه العادة متأصلة تتنافى مع العقل والأخلاق، فإنه يلاقي العنت الشديد ويلقى من الأذى ألواناً، فما بالك بمن يدعوا لنبذ العقيدة والعبادة، التي يتعبد بها القوم سنين عديدة ومديدة، فلو تصور أحدٌ مدى الأذى الذي سيتعرض له، فإنه سيُحجِمُ فوراً، وهنا كانت نفسه الشجاعة -صلى الله عليه وسلم-، حينما حمل على عاتقه هذه المهمة، وتحمل الأذى في سبيلها.
وكانت همته -صلى الله عليه وسلم-، بارزة في هذه المرحلة العصيبة من حياته، حينما استمر القوم في مخالفته، والمبالغة في حربه وإذايته، ومحاولة الضغط عليه بشتى الوسائل، حتى يرجع عما يدعوا إليه، فحاولوا إغواءه بالمال والنساء، والسيادة والزعامة فلم يفلحوا، وقد علموا من قبل أن مثل هذا الرجل، الذي قالوا عنه "هذا الأمين ارتضيناه"، لا تفلح معه شهوات النفس.
ثم حاولوا الضغط عليه بالتضييق على أصحابه وأتباعه، فعرضوهم للضرب والتعذيب، من أجل أن يقوم بالإشفاق عليهم ويرجع عما يدعوا إليه، فلم يفلحوا لأن القضية أكبر وأعظم من ذلك، ثم حاولوا الضغط عليه بتأليب عشيرته عليه، فضيقوا على بني هاشم من أجل أن يقاطعوه، فيكون البطش به سهلاً على قريش، فلم يفلحوا لأنه كان أكرم على عشيرته من ذلك ولو خالفوه في الرأي، فثبت -صلى الله عليه وسلم- على مبدأه.
ثم كانت همته في العفو عمن تسببوا في أذيته، وقد كان يقدر على إهلاكهم بإذن ربه، إلا أنه كان يرجوا أن تكون الأجيال القادمة، أكثر وعياً وأحكم عقلاً وأسدُّ رأياً، فينبذون العبادة العمياء، لأصنامٍ لا تضر ولا تنفع، وينبذون مكاره الأخلاق، التي كانت سائدة، وإن مجرد عفوه -صلى الله عليه وسلم- عمن أساء إليه، مع القدرة على عقابه، لهو لونٌ من ألوان القوة أشد من أي لونٍ آخر، فهو يدل على كرم النفس وضبط المشاعر، وصدق الرسالة الدينية والأخلاقية، التي بُعِثَ بها -صلى الله عليه وسلم-، "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".