التفسير الجنسي والمادي للتاريخ هو الذي يُحمّل البعض على تفسير الفتوحات الإسلامية على أنها للسبايا والمال بالرغم أن قصة فتح سمرقند وحمص واضحة تمام الوضوح في عدم طلب المال، كما أن غير دول أوربة دخلت جميعها سلما وبالدعوة والتجارة كلبدان من أفريقيا ومن جنوب شرق أسية، بيد أن أصحاب التفسير الجنسي لا يرون جمالا إلا عند الأوربيات، فهو ينظر بمنظار العصر الجاري الذي كثرت فيه الأصباغ وعرض اللحم الرخيص، ولو نظر بمنظار العرب قديما لعلم أنهم يحبون النساء عموما ولا يفرقون بين الشقراء والسوداء ولا بين القصيرة والطويلة فكل امرأة مرغوبة لأنها أنثى في مشيتها وكلامها وشكلها وشعرها، والشعر والأدب في ذلك واضحان تمام الوضوح. ولكن فساد الذوق العام وخصوصا من أصحاب التفسير الجنسي جعلهم يظنون أن رؤيتهم للجمال في العصر الحاضر كما هي أيام العرب.

وهنا قطعة أدبية أود عرضها من كتاب رحلة الحج للعلامة الشيخ محمد الأمين الجكني تبين نفسية العرب في الجمال والنساء، قال رحمه الله:

(ومما وقع السؤال عنه في أثناء المذاكرة ثناء أدباء الشعراء على قصار النساء، كقول الشاعر:

من كان حربا للنساء،، فإنني سلما لهنَّه

فإذا عثرن دعونني،، وإذا عثرت دعوتهنَّه

وإذا برزن لمحفلٍ،، فقصارهنَّ ملاحهنَّه

مع أن القصر جدا وصف مذموم، كما يدل عليه قول كعب بن زهير:

لا يشتكي قصرٌ منها ولا طولُ

ومعلوم أن كمال القامة واعتدال القدِّ وصفٌ محمودٌ فيهن، ومما يدل على ذلك قول عمرو بن كلثوم التغلبي:

وساريتي بلنطٍ أو رخامٍ،، يَرِن خُشاشُ حليهما رنينا

فكان جوابنا عن المسألة أن قلنا لهم: إن القصر الذي يستحسنه الشعراء من النساء ليس هو القصر الذي هو ضد الطول، بل هو القصْر في الخيام، فالقصار عندهم هن المقصورات في الخيام العاملات بقوله تعالى: (وقرن في بيوتكن) وهو معنى معقول، لأن الصيانة تصون ماء الملاحة ومعناها، والابتذال يذهب ذلك كله. وقد بين كُثيِّر في شعره حل هذا الإشكال حيث قال:

وأنت التي حبيت كل قصيرةٍ،، إلي وما تدري بذاك القصائر

عنيتُ  قصيرات الحجال ولم أرد،، قصار الخطا شر النساء البحاتر

والبحتر: القصير المجتمع الخَلْق.

فالخرَّاجة الولَّاجة لا ملاحة لها أبدا، وهي مذمومة عندهم، ولذلك لما سمع بعض الأدباء صاحبه يستحسن قول الأعشى ميمون بن قيس:

غراء فرعاء مصقول عوارضها،، تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوجل

كأن مشيتها من بيت جارتها،، مر السحابة لا ريث ولا عجل

يكاد يصرعها لولا تشددها،، إذ تقوم إلى جارتها الكسل

ليست كمن يكره الجيران طلعتها،، ولا تراها لسر الجار تختتل

قال له: قاتلك الله تستحسن غير الحسن، هذه خراجة ولاجة لا خير فيها، فهي مذمومة، فهلا قال كما قال الآخر -وهو قيس بن الأسلت-:

وتكسل عن جارتها فيزرنها،، وتعتل من إتيانهن فتعذر).

فكذا كان ذوق العرب في النساء، فهم قطعا ليسوا ممن تعجبه الخلاعة.

كما أن من أكثر الأمثلة تداولا حول التفسير الجنسي للتاريخ والفقه هما مثالان نذكرها بسبب ترديدها دوما:

١) قضية زواج الصغيرة:

ذكر الإمام الطوفي في شرح مختصر الروضة في كلامه عن (المصالح الحاجية) قوله:(القسم الثاني من المصالح هو الحاجي أي: الواقع في رتبة الحاجة، أي تدعو إليه الحاجة، (كتسليط الولي على تزويج الصغيرة، لحاجة تقييد الكفء، خشية أن يفوت، فإن ذلك مما يُحتاج إليه ويحصل بحصوله نفعٌ، ويلحق بفواته ضررٌ، وإن لم يكن ضروريا قاطعا.) ومن تأمل هذا الكلام أدرك أن التزويج للصغيرة يتم عن طريق ولي الأمر الذي يخطب الشاب الصالح لابنته، فربما يكون هذا الولي قد شاخت سنه ويخاف على ابنته إن مات، فيزوجها أحد الصالحين يتولى مسؤوليتها ويكفيها (وليس للغرض الجنسي كما يفهم أصحابنا)، وإن مثل هذا التسليط للزواج فيه مصلحة، على الأقل في زمنهم. فليس الأمر كما يفهم أصحاب التفسير الجنسي للفقه والتاريخ بأن ذلك شهوانية للغلمانية واغتصاب للطفولة، ولكن ذلك فهمٌ يتناسق مع ممارساتهم فالحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره فهم فهموا الزواج على أصوله بأنه كفالة ومسؤولية وسُكنى ورحم وحب وليس استمتاعا جنسيا من طرفٍ  واحد.

٢) إرضاع الكبير:

 ذهبت السيدة عائشة -رضي الله عنها- ووافقها ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في أن إرضاع الكبير يحرم (أي يكون حَرَما للأهل)، حيث قال ابن القيم: ( وفي قصة سالم مسلك آخر، وهو أن هذا كان موضع حاجة فإن سالما كان قد تبناه أبو حذيفة ورباه ولم يكن له منه ومن الدخول على أهله بد، فإذا دعت الحاجة إلى مثل ذلك فالقول به مما يسوغ فيه الاجتهاد، ولعل هذا المسلك أقوى المسالك وإليه كان شيخنا يجنح.) وبغض النظر عن مخالفة كلامهم للصحابة والتابعين الذين جعلوا الحرمة فقط لمن لم يتجاوز السنتين، إلا أنهم لم يقطعوا في هذا الرأي وكأنه صواب مئة بالمئة وإنما جعلوه محل اجتهاد إن دعت لذلك حاجة كحاجة سالم -رضي الله عنه- فهكذا فهم هؤلاء هذه القصة وأنها رخصة شرعية لظرف طارئ حيث أن سالما قد رباه أبوحذيفة فرّخص له النبي هذه الرخصة للحاجة، ولكن العلمانجيين وأضرابهم يفهمون أن الإرضاع على وجه الحقيقة، وهو أن يأت الرجل من ثدي المرأة ليرضع كما يفعل المولود، وليس هذا بوارد أصلا من كلام من ذكرناهم ممن يتبنى هذا الرأي، ولكن طبيعي أن يفهم العلمانجيون هذا الفهم حيث أن لديهم إرضاع الكبير والصغير وإرضاع النساء والرجال أيضا فهم على درجة من الإباحية عظيمة بطريقة فيها من قلة الأدب ما لا يستسيغه مؤمن، إذ أن رضاعة الكبير لمن قال بها ليست على الحقيقة وإنما مجاز وهو أن يشرب من حليب المرأة التي تربى عندها بقدح وشربة واحدة فقط.