لا أعني بـ "الثقافة النفسية" معرفة الأمراض النفسية وأسبابها مثلاً, لا أعني بأنك عرضة لشيء منها, وأنت قد لا تكون. أعني الوعي النفسي الذي يحتاجه فرد يعيش في عالمنا اليوم, يصبح ويواجه مواقف عديدة بعضها يسعده وبعض آخر يحزنه أو حتى يزعجه, مواقف عادية يومية, أخبار ترده, قرارات صغيرة عليه اتخاذها, ضغوطات يمر بها, علاقات وأشخاص, مشكلات صغيرة, وغيرها كثير, ينتهي اليوم ويبدأ يوم جديد, تتوالى الأيام وهو على نفس الوعي النفسي الذي نشأ عليه, أو الذي علمته له الحياة عنوة والذي قد يسميه "خبرة" أو رصيد من التجارب.


لنبدأ من جديد لعلك تتفق بأن ثمة أناس عرضة للأمراض النفسية أكثر من غيرهم لأية سبب, وأنا هنا – كما قلت- لا أتكلم عن الأمراض النفسية ولا عن الذين يكونون عرضة لها أكثر من غيرهم. أتكلم عن الفرد العادي, كمثال: حين يغضب لشيء تافه وينتهي الموقف وقد ينتبه بعد مدة زمنية ما, أو يتساءل ويدرك بأن ذلك الشيء لم يكن يستعدي الغضب. قد يتجاوز هذه المرحلة ويسأل نفسه لماذا غضب إذن؟ قد يفكر ويكتشف السبب الحقيقي وراء غضبه وقد لا يكتشف السبب ويتناسى ما حدث. حين يكتشف السبب فهو على الأغلب سيعرف بأن ثمة مشكلة صغيرة أو كبيرة وبمجرد معرفته لها سيجد حل أو طريقة للتعامل معها, وإن لم يجد الحل في ذات اليوم ففي الغد قد يفعل. إذا كان هذا ما يحدث بالفعل, فهو مثال على "وعي نفسي". لكن الغالب بأن ما يحدث هو العكس, يغضب لسبب تافه, يؤذي ويجرح من يعرف أو من لا يعرف, ثم ينتهي الموقف, يكمل دوامة يومه وينتهي منها إلى دوامة يوم جديد. وهكذا تظل الأسباب نفسها تزعجه في كل مرة دون أن يكتشفها ولو كانت بسيطة. لست أعني من يعاني من مشكلة الغضب, بل أعني موقف "الغضب من شيء تافه", الموقف الذي يمر به أي أحد. هو كمثال فقط أطرحه حتى أوضح ما أعنيه بالوعي النفسي الذي نحتاج إليه.


نحتاج إلى الوعي النفسي وتثقيف النفس بالأساليب والأفكار التي تساعدنا لا لأن نتفادى الأمراض النفسية فقط, بل أيضاً لنعيش حياة أفضل نستحقها كأفراد. تخيل الحياة التي تنتظر الواحد منا, حين يزيل أسباب إنزعاجه أولا بأولا, وحين لا يتمكن من ذلك فإنه يغير طريقة تفكيره حولها كأن يتصالح معها مثلاً, أو ينظر لإيجابياتها, أو .. أو.. أنا لا أتخيل حياة مثالية خالية من كل الأشياء المزعجة بسيطة كانت أو كبيرة, بل أتخيل حياة فرد بجودة أفضل, وعي أفضل. من حق الفرد منا على نفسه أولاً أن يسعى إلى تثقيفها, ثم من حق الناس الذي يعيشون في دائرته الصغيرة.


نشأنا وتربينا في مجتمع يجهل الكثير - ولازال- عن الوعي النفسي وأهميته في الحياة. مجتمع يعتبر المرض النفسي عيب, فكيف بوعي نفسي يحتاجه كل فرد  منا حتى يعيش حياته؟! سيعد التفكير بهذا من الترف, من الفراغ, من ومن. قد يقول قائل بأننا كمسلمين محظوظين ولسنا بحاجة كأفراد لكل هذا, برأيي أن المسلم في مواجته للمصائب مثلاً, حين يؤمن بالقضاء والقدر, حين يدعو ويلجأ لله. جميل, لكن ما الذي يحدث حين لا يستجيب الله له -لحكمة منه سبحانه - سيستمر بالدعاء والإيمان, نعم, لكن ثمة واقع يعيشه بشكل يومي بل بشكل لحظي, مصيبة وقعت أو ظلم قائم. برأيي في تلك اللحظة سيكون بحاجة إلى وعي نفسي يمكنه من إحسان التصرف والتفكير. أذكر "المصائب" على سبيل المثال فقط. ولكنني كما ذكرت سابقاً أعني الحياة اليومية بشكل عام. المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف, هل القوي هنا من يولد قوياً بالفطرة. أم أن القوة مكتسبة, هل هي محصورة بالإيمان أم تشمل المعرفة والعلم. أليس الوعي النفسي الذي يساعد المرء على حياة أفضل, أفضل!


في الهامش/

 أعترف بأني لا أمت لعلم النفس بأية صلة, لكني من التجربة ومحاولات المعرفة ألاحظ الفرق في تفكيري ومشاعري وتصرفي بين اليوم والأمس. لست ذات تجربة كبيرة في الحياة حتى تكون هي معلمتي الأولى, بل سعيي مؤخراً للإطلاع والملاحظة والتفكير هي من صنعت الفرق الذي ألمسه. الفرق الذي أستحقه ويستحقه كل شخص.