جالست شيخي محمد آل رشيد البارحة فحدثني عن قصة الشيخين أبو الحسن الندوي ومنظور النعماني- وهما فوق الألقاب رحمهما الله- حينما أقنعهم الداعية الشيخ الورع محمد إلياس الكاندهلوي مؤسس جماعة التبليغ- رحمات الله تترى عليه- للخروج للدعوة إلى الله في قرى الهند النائية، فذهبا إلى إحدى القرى وركبا عربة تجرها دابة وكان سائقها يسرع فيتطاير الغبار على وجوههم، فقالوا له على وجه السرعة والانفعال: خفف السير فقد خنقنا الغبار، فرد عليهما السائق لقد تعلمت أن أسير هكذا من الشيخ الكاندهلوي حيث أنه يتذكر دائما في هذا الموضع قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبدٍ أبدا) فكانت هذه الكلمة مثل الصاعقة عليهما وكأنهما عرفا معنى الحديث تلك الساعة.
فتذكرت قصة الإمام أبي حنيفة والحلاق حيث قال رحمه الله:
(أخْطأْتُ في خمسة أبواب من المناسك بِمكَّة، فَعَلَّمَنيها حجَّام ، وذلك أنَّني أردْتُ أن أحْلِقَ لأَخْرجَ من الإحرام، فأتَيْتُ حلاَّقًا، وقلتُ: بِكَم تحْلق لي رأسي؟ فقال الحجَّامُ: هداكَ الله، النُّسُك لا يُشارطُ عليه، اِجْلس ثمَّ ادْفع ما تريد، وكانت هذه مخالفة، لأنّ النُّسُك لا يُشارط عليه، ولا يُساوَم، قال: فَخَجِلْتُ وجلسْتُ، غير أنَّنِي جلسْتُ منحرفًا عن القِبْلة، فأَوْمَأ إليّ بِأنْ اسْتقبِلِ القِبْلة، ففعلْتُ وازْدَدْتُ خجلاً على خجلي، ثمّ أعْطيتُهُ رأسي من جانبي الأيْسَر لِيَحْلقهُ، فقال: أدِرْ شِقَّك الأيْمن، فأَدَرْتُهُ، وجعَلَ يحْلِقُ رأسي، وأنا ساكتٌ أنظر إليه، وأعْجبُ منه! فقال لي : ما لي أراك ساكتًا؟ كَبِّرْ، فجَعَلْتُ أُكبِّر حتى قُمْتُ لأَذْهب، فقال: أين تريد؟ فقلتُ: أريد أن أمضي إلى رحلي، فقال: صلِّ ركْعتين ثمَّ امْضِ إلى حيثُ تشاء .
قال: فصلَّيْتُ ركْعتين، وقلتُ في نفسي: ما ينبغي أن يقعَ مثلُ هذا مِن حجَّام، فقلْتُ له: مِن أيْنَ لك ما أمرْتني به من المناسك؟ فقال: لله أنت، لقد رأيْت عطاء بن أبي رباح يفعلُهُ، فأخذْتُ عنه، ووجَّهْتُ الناس إليه، فكان الحجّام تلميذَ عطاء بن أبي رباح) .
هكذا هم العلماء الربانيون بمجرد مشامتهم -كما يقول الشيخ عبدالفتاح أبوغدة- أو رؤيتهم عوضا عن مجالستهم والأخذ منهم، تتعلم منهم وتستفيد وتقتبس من نور إيمانهم.