سَرَحَ الأستاذ ماركيز بعينيْه البنيتيْن على طول الأفق، أين تتألَّقُ زرقة مياه البحر المتوسط، لتسقط في ذهنه الكثير مِن الأفكار، كان أهمها متعلقا بـِ: "مجتمع القراصنة"، فقد لاحظ قبل أيَّامٍ بأنَّ الإنسانَ العامِل بين هؤلاء القوم، تجده معظم الوقت في حالة مِن الكآبة، وعدم الرغبة في العمل، فيا ترى لماذا؟

هي الكلمة السحرية التي غالبا ما تتردَّد على مسامع ماركيز عند محاولته البحث عن الجذور الأساسية لأيَّة مشكلة تغوص فيها الإنسانية على أرض القراصنة، هي كلمة الظُّلم (L’injustice)؛ وهي فعلا سبب أساسي في حالات البؤس (La misère)، وماركيز يتفهَّم هذه الرابطة بين الشعور العميق بالظلم والحالة الاجتماعية المزرية والصعبة، خاصة في حالات الأفراد الحالمِين بالأيَّام الجميلة.

هناك أسباب أخرى بلا شك تجعل الفرد الإنساني في حالة بؤس يومي تقريبا، ربما أبرزها تلك الفكرة التي تربط ذهن العامِل (Le travailleur) بعدم جدوى ما يقوم به، لأنَّ أرض القراصنة كما هي أرض القارة الأفريقية عموما، وأفريقية الشمالية بالخصوص، ليس لديها مشاريع اجتماعية/ثقافية تبث الحماس في أفرادها ومواطنيها، لتدفعهم لاستخراج كافة طاقاتهم تضحية لإنجاز هذا المشروع الجماعي.

كما أنَّ عدم المساواة (L’égalité) بين المكافآت هو عنصر مهم لوصول عمال هذه الأرض لتلك الحالة مِن الركود، وهي السبب الذي يدفع المنتج إلى الخمول مهما كان مركزه، فعندما تعمل من أجل أجر زهيد لا يشتري لك قطعة لحم واحدة إن ما قارنا أسعار المواد الاستهلاكية بالأجور اليومية، فأنت بشكل آلي ستشعر بالبؤس والحسرة، وبالتالي لن تقوم بأعمالك سوى بما تستطيع القيام به في حدود بذلك للمجهود بدرجات دنيا، لأنَّك تدرك مسبقا بأنَّك لن تنال حقَّكَ كاملا.

لا توجد عدالة اجتماعية على أرض القراصنة، وما نراه في صورة العمَّال ما هُم سوى بطالين مقنعين كما ورد في نص "العَدَم الثمين" عند تميم البرغوثي، تلك الأجور التي يتقاضونها هي رشاوي يأخذونها لقاء صمتهم على المظالم التي يتعرضون لها، وذلك المسار الذي رُسِم للقرصان في القصور ما وراء البحر على الضفة الشمالية من البحر المتوسط، هو الحِمل الأثقل الذي يجب العمل على التخلُّص منه.

أينما يقع الظلم يقع البؤس، هي ثنائية يعرف ماركيز جيِّدًا بأنَّها على اتصال دائم، لا يمكن أن نجد بائسا سعيدا، ولا سعيدا بائسا، وعلى أرض القراصنة ليس هناك استثناء في هذه المسألة، لكن وبالمقابل قد نجد البائس سعيدا في حالة واحدة فقط، عندما يكون هذا البائس جاهلا ببؤسه، وهذا ما يدركه زعماء القراصنة جيِّدًا، لهذا هُم يعملون بكلِّ قواهم على نشر الجهل في كافة نواحي حياة القراصنة، لأنَّ البائس الجاهل هو فرد وديع غير مزعج، قادر على تقبُّل حالته الاجتماعية الصعبة وهو مستكين إلى أوهام مختلفة، رافضا بشدة الحقائق التي تنتشر أمام عينيْه.

البؤس لا يظلم أحدا غصبا، هو يظلم القراصنة طواعية، فهذه النقطة بالذات تُشكِّلُ الجانب الرئيسي فيها قيمة "الوعي" (La conscience)، كلَّما زاد وعيُ القرصان بما هو فيه، فإنَّه يحمل إمكانية تحديد المسؤولين عن هذه الوضعية، فيتمرَّدُ عليهم وعلى الظلم الذي هُم أهم أسبابه، ولكن للأسف، لا أحد يستمع لما يقوله ماركيز وإخوانه مِن النُّبلاء، وهذه مصيبة إضافية تزيد من تعقيد القراصنة.

لا خير في أنَاسٍ لا يستمعون، وإن استمعوا لا ينصتون، وإن أنصتوا لا يقرؤون، وإن قاموا بالقراءة تجدهم لا يفهمون، وإن فهموا عادوا إلى جهلهم بسرعة، لأنَّهم يخشون مِن التغيير (Le changement)؛ هُم يعتقدون بأنَّ المذلة التي يعيشونها هي قضاء وقَدَر، وأنَّ الحياة تتوقف عند حدود جهالتهم، لكن ماركيز يستعير مِن فيلسوف البرميل مقولته ليسقطها على حال القراصنة قائلا لهُم: "ابتعدوا لأرى الشَّمس".