بقلم: علي طه النوباني
تَسأَلُ الـمُعَلِّمَةُ عَبيرُ الطالبةَ دينا في الطابور الصَّباحي: كيفَ انسكَبَ الشّايُ على قَميصِك؟ فَتَرُدُّ دينا بالإِنجليزية: “It was an accident” أَيْ أَنَّها مجرد حادثة عارضة، على الرغم مِنْ مَعرِفَتِها الأكيدة بأنَّ الطّالِبة المشاكسة لَيان هي التي قامت بذلكَ عَمْدا، ودونَ أَيِّ مُبَرِّرٍ مَقبول.
كانَ مِنَ الممكن أنْ نَحسب ذلك على التَّسامُحِ والبَساطة اللذين اتَّصَفَتْ بهما شخصية دينا لولا تكرار الطريقة نفسها مع أكثر من شخصية في العمل، وَكَأنَّ المؤَلِّفَ والمخرجَ يَفرِضانِ عَلى الشُّخوص ما يريدانه؛ لا ما يريده المنطق السياقي للأحداث، وَمِن أمثلة ذلك:
يَسأَلُ المحقِّقُ مَريم:" مَن هو الذي اعتدى عَليكِ؟" فَتقول مريم:" هَجَموا عَليّ مِنْ وَرا وما عرفتهم" على الرغم من أن مريم كانت في أضعف حالاتها ما يجعلها بحاجة إلى حل سريع لتنمر عصابة ليان عليها. والعمل بِذلك يريد أن يقنعنا بأن مريم فَضَّلت أن تنتقم بنفسها، وهو خيار غير منطقي على ضوء معرفة مريم بكون الجميع تقريبا يقفون ضدها.
وفي الاجتماع الذي انعقد للمديرة والمحقق والطلاب وأهاليهم، وبعد أن أنكرت كل من ليان ورانيا ورقية أي علاقة لهن بالاعتداء الشديد على مريم، تنهض ليان وتدعي أنَّ مريم قد تحرشت بها في غرفة الملابس، وتتفق الطالبات جميعا على الكذب لصالح ليان ما عدا دينا التي ليس هنالك قيمة لشهادتها؛ لأنها لم تكن موجودة في غرفة الملابس أثناء حادثة التحرش المزعومة، وتصبح مريم في موقف حرج يستدعي منها أن تدافع عن نفسها بأي طريقة ممكنة، لقد كانت فرصة مريم لتفضح ليان أمام أهلها؛ وتقول بأنها هربت من المدرسة قبل أيام، لكن مريم تختار الخروج مع والدتها التي أصيبت بالحرج الشديد بسبب حادثة التحرش المزعومة التي ألصقت بابنتها، ولا يبدو على مريم أي رغبة في كشف ليان أمام أهلها وأمام الجميع! وهكذا ينسى الجميع حادثة الاعتداء الجسدي المريعة على مريم، فيتم فصلها من المدرسة لمدة أسبوعين بتهمة التحرش، ويتم تحويلها للطبيب النفسي في تخبط درامي ظاهر لا يقبله العقل.
وإذا ما تذكرنا أن سبب الاعتداء على مريم هو أنها قامت بتبليغ المديرة عن هروب ليان من المدرسة دون علم أهلها، فكيف سيغيب ذلك عن عقل مريم طوال فترة التحقيق وصولا إلى الفرصة الذهبية التي تحققت بحضور أهل ليان؟ وما الذي منعها من توجيه الضربة القاضية ل ليان بإعلام أهلها أمام الجميع بأنها تهرب من المدرسة وبأن المديرة تتستر على هروبها.
نوف أيضا التي شاهدت حادثة الاعتداء كاملة، خافت من عصابة ليان، وأنكرت أنها تعرف أي شيء عن الحادثة، على الرغم من أنَّ أيَّ اعتداء سيقع عليها بعد كشف عصابة ليان سَيُنْسَبُ إِلى لَيان عَلى الفَور، وخاصة أننا نتحدث عن طالباتٍ وَلَيسَ عصابة مافيا لها آلاف العملاء الجاهزين للقتل.
بل إن نوف نفسها تتعرض لاحقا لحادثة تحرش في الفندق، ولا تقوم بتقديم أي شكوى ضد المتحرش بدعوى أنها تعرف مسبقا أنها لن تنال سوى التشويش، وهو خروج ظاهر على ما هو معروف، فكل بركة سباحة يوجد قربها منقذ سيحرك الحق العام ضد المتحرش، ناهيك عن الكاميرات التي ستلتقطه، ولن يحتاج الأمر إلى شكوى من نوف. لقد حرفت المؤلفة موقف نوف لصالح ليان بشكل مفتعل ومكشوف، وَقَلَبَتْ شَخصية ليان في تلك اللحظة إلى مَلاكٍ على الرغم من أنها بالأمس قامت باختلاق قضية تحرش فاضحة لمريم بعد أن أشبعتها ركلا مع رقية.
وعلى ذلك نستطيع أن نستخلص مما سبق ما يلي: أغلبية الطالبات يكذبن، وأغلبيتهن يعانين من الإحباط؛ فهن يمتلكن أدوات الدفاع عن النفس ولا يستعملنها! ولكن لماذا الإحباط؟ فنحن لا نتحدث عن مدرسة في قرية نائية ينزف الماء من سقفها ولا يوجد فيها حمامات ولا ملاعب، ولا يمتلك طلابها ثمن سندويشة فلافل؟ إنه إحباط مصطنع تفتعله المؤلفة لكي تُقَمِّصَ فكرتها على الشخوص بشكل اعتباطي، ولكي تصل إلى عدد الحلقات المطلوب.
الشخوص في الدراما ليسوا لعبة في يد المؤلف والمخرج يجبلهما كما يشاء، ويقلب أحوالهما كما يريد، فلا بد لأي تغير أن يكون مبررا قي سياق الأحداث وتفاعلات مكوناتها؛ وما عدا ذلك فإن ما يسمى دراما؛ هو تلبيس ممجوج، وتنافر مزعج للمتلقي، وسخف ظاهر، وتحد للمجتمع الذي يمثله العمل عن قصد أو غير قصد.
يقول أحد المعلقين على هذا العمل " صُناع المسلسل لم يُقَدِّموا العمل على أنه مَحَلِّيّ بِمعنى أَنَّهُ يُمثل الأردن أو بيئته… لأن التنمر قضية عالمية" فهل هذا صحيح؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يَتَعَمَّدُ المُخرِجُ تصوير معالم مشهورة من العاصمة الأردنية عَمّان مثل جامع الملك عبد الله الأول في العبدلي؟ وهل يتطلب ذلك مِنَ المُشاهد أن يُغمِضَ عَينيه عندما يرى مَعلَمًا أردنيا ويقول لنفسه: لا، ليس في الأردن، هكذا يريد طاقم العمل!
وعلى الرغم من أن المدرسة تقوم بالتعليم باللغة العربية كما ظهر في درس البيولوجيا (المعلمة عبير)؛ إلا أنَّ الطالبات يتحدثن نصف الكلام باللغة الإنجليزية، بل إنهن ينبرن العبارات العربية أحيانا بطريقة غريبة، ربمَّا لأن جَوّ (نِتفلكس) قَد طَغى على كُلِّ شَيء في العمل، فَبَدا لبعض الممثلات أن يتحدثنَ العَربية بالنَّبرة الإنجليزية. وعلى من يريد أن يلاحظ هذه المسألة أن يدقق في أي استفسار يبدأ بكلمة (أيش) وهي كلمة من اللهجة الأردنية تعني: ماذا.
وَما أَغربَ سُلوكَ المديرة عندما ذكرت لِ لَيان أنَّ واحِدَةً من الطالبات اللواتي يَخَفنَ على مَصلَحَتِها قَد أَبْلَغَتْ عَن هُروبِها مِنَ المَدرسة رغم أننا جميعا نعرف أن هنالك معلمة تشرف على الطالبات في الحافلة، وأخرى تَعُدُّ الغِياب والحضور، فَأَيُّ مُديرَةٍ هِي تِلك التي تزرع الأحقاد بين الطّلاب! وما هي مصلحتها في ذلك؟
الأنكى من ذلك هي النظرة الغريبة من المحقق نحو المديرة عندما ذكر أن الكاميرات مزروعة في كل مكان حول المدرسة وداخلها، ويمكن مراجعة أي حدث من خلالها، ماذا قصد المحقق من تلك النظرة البوليسية التي نسيها المخرج ولم يَبْنِ عليها شيئا، بل إن ليان سكبت دلو الماء أمام آذنة المدرسة، ووجهت لها كلاما مسيئا في الممر بين صفوف المدرسة دون أن تراها الكاميرات الموزعة في كل مكان! واكتفى العمل بنظرة استنكار من قبل المعلمة عبير التي تلقت هي الأخرى إهانات موجعة من عصابة ليان. فإذا وافقنا أن حادثة الاعتداء على مريم كانت عند الحافلة المهجورة البعيدة عن الكاميرات؛ فهل كاريدور المدرسة هو أيضا بعيد عن الكاميرات بحيث لم تسجل قيام عصابة ليان بإهانة آذنة المدرسة وكسر موبايل نوف.
وفيما عدا والدة ليان، فقد بدت الأمهات قاسيات جدا، فوالدة مريم تتفنن في جمع فظاظتها وملامح وجهها الحادة على الرغم من أنَّ ابنتها تعرضت لاعتداء جسدي شديد، بل تطلب منها أن تُطيع مُديرة المدرسة؛ وأن تحمد الله أنها لم تفصلها من المدرسة، على الرغم من معرفتنا بأن الطبقة التي تُدخل أبناءها لمثل هذه المدارس يمكنها تبديل المدرسة بسهولة؛ فالقسط المرتفع هو الذي يتحدث، وليس فاتن بوقفتها الطاووسية الغريبة على إدارة المدارس. أما والدة رقية فقد حجبت بنتها عن العالم، وأقنعتها بأنَّها غير جميلة، ولن يكون لها أي فرصة في الزواج في سادية أُمومية عجيبة. وبالمقابل لم يظهر في العمل أيُّ صورة مشرقة للأم على الرغم من أنَّ كُل الأُمهات كُنَّ يَومًا ما في عُمرِ مَريم وَلَيان وَرانيا.
هكذا بَدَتْ مَدرَسَةُ الرَّوابي للبنات، مُديرة تُوقع بين الطالبات، وَتَتستَّر على هُروبهن مِن المدرسة، وأغلبية الطالبات يكذبنَ، ويتسترن على الجريمة بأنانية مفرطة في سياق درامي مفكك لا يبقي للمشاهد غير متابعة الفتيات الجميلات ولهجتهن الغريبة التي تحكي العربية بالإنجليزية. لقد أراد العمل معالجة ظاهرة التنمر، لكِنَّهُ تَنَمَّرَ على مَنطِقِ الدراما، وعلى عقل المشاهد أَكَثَرَ مِمّا خَدَمَ الفِكرةَ التي حاولَ طرحَها.