قررت أن أنام دون أن أستيقظ. شعرت في ذلك اليوم المشهود بالذات أنني قادر على ذلك. كان عطشي قد فاق كل حد. الشقوق التي في شفتي كانت تسمح لأسراب من النمل ــ المشتهاة ــ أن تعبرها من أولها إلى آخرها، جلدي سَمُك وغزاه الجرب، وملأته البثور من أوله إلى آخره، وعيناي تحجرتا كأنما قُدّتا من صُوّان مُطفأ، وقدماي اسودتا لطول ركضي حافياً، وعظامي صار يُسمع صوت احتكاك بعضها ببعض. وأنا يائس حد الموت، وبائس حد الفناء. ولم أعد قادراً أن ابلع ريقي، ولا أشرب مزيداً من دموعي، فقد جفّت كلها، بكل ألوانها، دموع الندم والحسرة، ودموع الحُزن واللوعة، ودموع الفرح، ودموع الدهشة، ودموع اليأس، ودموع الألم، ودموع الغياب، ودموع الانتظار، و ... نمت . في النوم الذي لم أدرِ كم أستمر، رأيت سحابةً قادمةً من الأفق البعيد، سوداء، لكن قلبي خفق لها، ظلت تسير حتى صارت فوقي، سألتني إن كنت أشعر بالعطش، فبكيت. قالت : هل أنت وحيد؟ فأجهشتُ في البكاء من جديد، هتفتْ : أين غاب اخوتك؟ فكدتُ أختنق بدموعي. أرتجَ كل شيءٍ فِيّ، فَمَلأتها شفقة سماوية، فَبكت لبُكائي. وكأنما كانت تحمل طوفان نوحٍ في جوفها، أنفتحت فأنهمر المطر غزيراً كثيفاً سحاً . أنفتحت بوابة الحلم على الحقيقة، ورأيتُها، تبكي وتبكي، وهي تهطل بلا انقطاع، استندت على باطن كفي، أبتل شعر رأسي سريعاً، فززت على قدمي، وبفرح طفولي رحت أقفز بالهواء، وأنا أصرخ بكلمات تلعثمت حروفها فخرجت بلغة البدائي الأول، رفعت يدي إلى السماء الغاطة بالوابل الغدق وانا أبكي من الفرح، لم أتمالك نفسي، ولم تستوعب أقدامي حرارة المفاجأة فخرت ركبتاي، وسقطت على الأرض وأنا أبكي، رفعت رأسي إلى السماء، ما أبعد السماء أمسِ وما اقربها اليوم! شكرت الله الذي في الاعالي، وهتفتُ : "املأني برحمتك أيها القدير" ، ورحت أعبّ من الماء، أكور راحة كفي، وأثنيها باتجاه كفي، وأثنيها باتجاه فمي على هيئة ميزاب، فينساب عبره الماء كما في بطون الأودية، وارتوي، أشرب واشرب واشرب، دهورٌ من العطش البشري لابد أن يكافئها ارتواءٌ أشد جنوناً. اشرب واشرب واشرب، وتسري في جسدي شعلة حياة جديدة، وانتفض، وارتجف، واتقد، واكبر، وأعشوشب، وأخضل، وانجلي، وازدهي، واتسامى، وأتذكر ... اتذكر كل دقيقة من دقائق الامور جلت عن الحصر، منذ مولدي إلى اليوم. لم أعد ذلك الكائن الأول، الماء سر الانبعاث، إنه طقس الولادة المتجددة، الماء حياة الأزل المتعاظم والأبد المتطاول. وقفت على قدمي من جديد، وقد غاصتا في طين السنوات الأربع الأولى يوم أن سمعت ذلك الصوت السماوي الأول، وها هو يتردد من جديد، في غطيط الأمواه المتدفقة من سماء الرحمة!!
(مشهد و تفاصيل)
هذه التدوينة كتبت باستخدام اكتب
منصة تدوين عربية تعتد مبدأ
البساطة
في التصميم و التدوين