لطائف من غزوة الطائف (2)

 

هذا هو اللقاء الثاني من ذكر بعض مشاهد من يوم غزوة الطائف، وكما هي بين أيدينا، نستلهم منها هَدْيَ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكأنما نحن معه صلى الله عليه وسلم، وعلى مادته، تاريخًا مجيدًا، وصفحات خالدة، تنير درب السالكين، وتضيء مسالك الدارجين.

 

وهذه سبعة مشاهد، نعالج بعضًا مما رأيناه نورًا، وننهل مما ألفيناه هدًى:

المشهد الأول: كانا بجرش يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور.

 

المشهد الثاني: فابتنى بها مسجدًا فصلى فيه.

 

المشهد الثالث: بل هي اليسرى!

 

المشهد الرابع: إما أن تخرج إلينا، وإما أن نخرب عليك حائطك.

 

المشهد الخامس: من خرج إلينا من العبيد فهو حر.

 

المشهد السادس: ((من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه، فالجنة عليه حرام)).

 

المشهد السابع: ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ﴾ [البقرة: 187].

♦♦ ♦♦ ♦♦


المشهد الأول: كانا بجُرْشٍ يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور.

هذا بيان الإمام ابن إسحاق رحمه الله تعالى، عن صحابيين كريمين؛ هما: عروة بن مسعود، وغيلان بن سلمة، ولأنهما لم يحضرا غزوة الطائف مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولأنهما كانا بجرش يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور.

 

وهذا بيان آخر أن أمتنا مستهدفة، ولهذا السبب فقمِنٌ بها أن تعد عدتها، ولتقوى شوكتها، وحين تحارب، أو هكذا اضطرت إلى مجابهة عدو الله تعالى وعدوها أيضًا، ولعل إعداد العدة، وكسلاح للردع كان أمرًا واجبًا أيضًا، ولكلا الأمرين كان اطلاعها بهما معًا، واطلاع بعض من أفرادها بهذه مهمة جديرة، وبتلك مئنة قديرة، ولذلكم الذي أعددنا له العدة.

 

إن القوات المسلحة الإسلامية بحاجة إلى تأهيل قسم منها عظيم؛ ليقوم بمهمات تصنيع الأسلحة، وعلى اختلاف أنواعها، وعدم الاعتماد على استيراد أسلحتها من هنا أو من هناك، إلا في نطاق يكون ضيقًا، ولأن الله تعالى جعل الناس بعضهم لبعض سخريًّا، وهذا حق، ولا مرية فيه، ولا جدال، لكن الحق، ومن وجه آخر أيضًا، أنه يجب على أمتنا أن تحقق اكتفاءها ذاتيًّا، واقتصاديًّا، وصناعيًّا، وزراعيًّا، ومن كل شيء، ولا شك أيضًا، وكيما تفرض هي شروطها على العالمين، لا أن يخضع قرارها لابتزاز هذا، أو ما سواه، أو على الأقل، وإن شئت فقل: تستغني.

 

وقد رأينا كيف خصص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فريقًا كانت مهمته هي صنع السلاح، لإمداد القوات المسلحة الإسلامية، وكلما عنت لها حاجة.

 

ولكن الأمر ليس بمثل السهولة، ويكأنه من مثلها أيضًا!

 

وذلك لأن التقدم هو السهولة، وذلك لأن التأخر في هذا الجانب أو ما سواه هو غيرها أيضًا!

 

وأقول: إن الأمة بحاجة إلى التصنيع العسكري، وغير العسكري، وهذا سبب موجب من أسباب عقيدة التوكل، التي هي عماد أمرنا، وأُسُّ منهجنا، وسبيل دعوتنا.

 

وقول بغير ذلكم هو إهمال لتوكلنا، واستدبار له، واستظهار لغيره، من تواكل غير حسن، وما كان ليؤتي أُكُلَه يومًا لا على صعيد الأفراد، وفضلًا عن سبيل الأمم والجماعات.

 

وأقول أيضًا: إن فريق البحث والدراسة في مجالات العلم المختلفة، كان حقًّا على الأمة تنشئته، ورعايته، وحراسته، ولأن هذا الصنف من الناس يكون دائمًا مستهدفًا، وواقع الحال شاهد، وطبيعة المرحلة حاكمة أيضًا، وهذا مما يُشكَل على البعض، ولكنه ليس يشكل، وحين نعلم أن الحروب لا جبهة لها! فكل جانب من جوانب الحياة، لَيعد مسرحًا للعمليات، ولا فرق في ذلك بين حرب عسكرية، وأخرى اقتصادية، وثالثة زراعية، أو صناعية، وهلم جرًّا!

 

وهذا الذي يجعلنا وقافين بحق عند قوله تعالى: ﴿ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ﴾ [الأنفال: 60]، وإذ كان من سابقه قوله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ﴾ [الأنفال: 60]، ولأن القوة لفظ عام، فيندرج تحتها كل ما يمكن أن يطلق عليه قوة، حقيقة أو مجازًا، ولا يشذ عن ذلك فرع واحد من فروع المجالات الحياتية، والتي تتحدد، وتتحدث، وتتغير، وتتبدل، وتتعدل، وتتطور، ومن حين لآخر أيضًا، وفي مواكبة حقيقية لكل ما جدَّ، وفي بابه.

 

وقال الله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 60].

 

وإن سلاحًا تعده الأمة، وإن قوة تمد بها نفسها، فإن هذا يحقق لها غاية عظمى، وذلك يكون وبامتلاكها زمام المبادرة، فتكون والحال كذلك قد تهيأت لما يمكن أن نسميه أنها تملكت سلاح الردع، وهذا بذاته ربما كان كافيًا، ولأنه ندٌ بند القاعدة الهجومية، فراعى بين صنوف الردع والمواجهة، وواكب بين أنواع الأسلحة المختلفة والمتباينة.

 

ونشير إلى استلهام عمل قواتنا المسلحة الإسلامية، وعلى مدار التاريخ فقد كان لها فضل السبق في ذلك، ولقد بلغ ذلكم وجهه وأوجه إبان عصورها المختلفة، وأزمانها المتعددة أيضًا.

 

ودوننا نبينا محمدًا صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ويوم الأحزاب، وحين أرسل نعيم بن مسعود رضي الله تعالى عنه، يوم الأحزاب، وحين قال له: ((الحرب خدعة))[1]، وفي تأسيس كريم لأصول الحرب: الخدعة، والإغارة، في آن، وحين أعيت الخدعة، فثمت الحرب والإغارة، وهذا بالطبع عمل جهاز الاستخبارات الفائق القدرة، والعظيم الكريم السطوة، وحين يفرض عزة أمة، ومن عمل الليل، ومن عمل النهار، عيونا ساهرة، وقادة باهرة ماهرة، وبين أيدينا الآن يوم حصار الطائف، وها هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يخصص فريقًا بحثيًّا صناعيًّا؛ للقيام بعمل هيئة التصنيع العسكري الإسلامي، وبإحكام دقيق وشامل في آن أيضًا، ولتكون حلقة الاتصال بلا انقطاع، بين تاريخ مجيد لهذه الأمة، الممتازة، الرائدة، القائدة، الفتية، وبدينها، واعتصامها، وقوتها، وصلابتها، وحين استمسكت بحبل باريها، أمة واحدة موحدة، لا تشرك بربها شيئًا، وحين أطاعت أوامر ربها، ومن قرآنه استقت، وحين أحبت نبيها، وبشرعه عبدت!

 

وها هو أمير المؤمنين، عمر الفاروق، رضي الله تعالى عنه، وحين اتخذ من تعليم الناس الرماية، والفروسية، والسباحة، وبرهانًا على تنشئة جيل مسلم، قوي، فتي، عتي، يستطيع مجابهة أخطار الحروب، وبصدر مفتوح، لا يخاف عدوًّا، ولا يرهب مارقًا، سلاحه تقواه، وحسبه الإماتة – الشهادة - وله الجنة، وعماده توكله على مولاه، وحين اتخذ السبب الموجب، وإذ ها هو يمسك بعنان فرسه، طالبًا الشهادة، راجيًا الجنان، والفردوس الأعلى من الجنة أيضًا، وإذ هما زادا المسلم الصحيح، وهما ترياقه، وحين عزت الأمصال!

 

وإذ آن لنا أن نقول: إن إعداد الجندي المسلم المقاتل، والمحب لبذل المهج، بل وطالبها، هو ذاك الأمر الأهم، وحين أعددنا جنديًّا شهمًا مقاتلًا، يذود عن دينه وبيضته، وعن كل شبر امتد إليه سلطان أمته، وبكل عزم دفاعًا عن حصون الإذعان لله تعالى ربنا الرحمن وحوزته، وإذ هو ذاك الذي سوف يمسك بيديه سلاحًا، أعدته له هيئة التصنيع العسكري الإسلامي!

 

وأمامنا عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وحين رده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يوم أحد؛ ولصغر سنه، ولك أن تصَّوَّر عبدًا لم يبلغ أشده، ولم يواتِ رشده، وإذ ها هو تقوده نفسه؛ محبة للشهادة، ورغبة في الحسنيين، إحداهما، أو كلاهما!

 

ولهذا فنحن ننشد تنشئة جيل كهذا!

فعن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: ((أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَرَضَهُ يَومَ أُحُدٍ وهو ابنُ أرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي، ثُمَّ عَرَضَنِي يَومَ الخَنْدَقِ وأَنَا ابنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فأجَازَنِي، قالَ نَافِعٌ: فَقَدِمْتُ علَى عُمَرَ بنِ عبدِ العَزِيزِ وهو خَلِيفَةٌ، فَحَدَّثْتُهُ هذا الحَدِيثَ، فَقالَ: إنَّ هذا لَحَدٌّ بيْنَ الصَّغِيرِ والكَبِيرِ، وكَتَبَ إلى عُمَّالِهِ أنْ يَفْرِضُوا لِمَن بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ))[2].

 

وقد أنف الحديث عن هذا الحدث الكريم، وإبان تناولنا لغزوة أحد، ومن هذه السيرة النبوية المباركة، وقد أسبرنا فقهه، ولما أوفيناه حقه، ما استطعنا.

 

وكفى أن أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه أسس قاعدة التصنيع العسكري البحري، وفي سابقة كانت عظيمة فريدة، وإذ نحن بحاجة إلى استلهامها، وفي كافة مناحي حياتنا أيضًا.

 

سبق إسلامي فريد:

وهذا هو علم الفلك جنبًا إلى جنب، ومع علوم التصنيع العسكري المتعددة، وحين كان استخدام الإسطرلاب ابتكارًا إسلاميًّا صرفًا، لتحديد مسارات السفن، ومنه تقدمت - ومن عقدنا أيضًا - صناعات التقريب والتوجيه عن بُعْدٍ، وإذ كان هذا أساسها الإسلامي المجيد.

 

وأمامنا، وكيف كان الفتح المبين لمدينة القسطنطينية، وعَلَمًا على نبوءة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحين استخدم فيها المنجنيق مفاجأة، ولما استخدم فيها مبادأة، ومفاجأة أيضًا!

 

ويلزم قول هذا؛ لنعلم من نحن، وعلى خريطة هذا العالم الممتد.

 

نحن أمة أستاذة!

وإذ نحن أمة مبتكرة مبدعة خلاقة، ولتفرض نفسها قوة ذات عزة، وأمة ذات أنفة، وحين كانت يدها طولى، وتعطي ولا تأخذ، وتمنح ولا تمنن، وتهب ولا تستأثر، وتؤثر ولا أثرة، فضلها عام للعالمين، وخيرها ضافٍ للآخرين، وكما منه مجدها في الأولين والآخرين.

 

وإذ نؤكد مرة أخرى، ومرات بلا حصر أيضًا، أننا أمة أستاذة، رائدة، قائدة، مبدعة، خلاقة، وكما أننا أمة مستهدفة أيضًا، ومن شرق ومن غرب! ولما سبق من مقومات، يعلمها غيرنا، ولربما كان أكثر من علمنا عن أنفسنا، من قوة وشكيمة، وعزة، ونبل، واستقامة، وإرادة الخير للناس أجمعين، مادِّينَ يدًا فيها قرآننا، ومتطلعين بيد أخرى أننا ذوو الهيجا، وفي الميدان، وإن لزم! ومن هنا وجب اتخاذ الأسباب اللازمة لردع عدونا، وبسلاحنا، ووجب أيضًا اتخاذ الوسائل المانعة من غزو الغير لنا، وفي عقر ديارنا، دارًا دارًا، ولا فرق ها هنا بين دار من شرق، ودار أخرى من غرب أيضًا، فإن ديار الإسلام وكأنما هي دار واحدة؛ ولأنهم أمة واحدة، ولأن دينهم هو ذلكم الدين الأبي الواحد، الذي هو الإسلام الحنيف الخالد، وبيضة الدين جامعة، وحوزة الدار مانعة، لا تفرق، وعموم الروابط لا تنفصم، ولا تنفصل، ولا تتأزم، ولا تتقطع، ولا تتجزأ، وإن حدث بينها حادث، فإنما له حدوده، ومن ثم يرجع كل إلى الحظيرة الشاملة؛ ومن ثم يعود كل إلى حيث قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ [المؤمنون: 52]، وكذا قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92].

♦♦ ♦♦ ♦♦


المشهد الثاني: فابتنى بها مسجدًا فصلَّى فيه.

وهذا فعل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويوم كان في طريقه إلى غزوة الطائف، وهو دال بطبيعة الحال على أهمية المسجد في هذا الدين، وإذ كان يمكنه صلى الله عليه وسلم أن يصلي، ومن حيث جعلت له الأرض مسجدًا، وتربتها طهورًا، ولا سيما أنه يعد مسافرًا، والحال كذلك، وإلا أن هذا الفعل، ومن زاوية أخرى، يعد إثخانًا في المشركين، وإذ يعد من قبيل الحرب النفسية الفائقة، وإذ كان معناها أنَّا جئنا، وها نحن عسكرنا، وها نحن أقمنا، واستوطنا، وأنت خبير بمدى فعل ذلك في صفوف الخصوم، وحين يفرقها، وما هو فعله في قلوبهم، وإذ هو يشتتها، وما هو فعله في أبدانهم، وإذ يرعدها، ويقلقلها، ويرجها رجًّا، وكأنما مرجل، ومن تحته نار، ومن فوقه نار أيضًا!

 

وليس يصرفنا ذلكم عن قيمة الصلاة، في هذا الدين، وحين إقامتها، وعلى وقتها، وعلى أي حال، وتحت أي ظرف مواتٍ، وإذ لا عذر لتركها، أو إهمالها أبدًا.

 

وإنه ومن حيث نُودِيَ بها المسلمون، ومن حيث قد نُعِتَ بإقامتها المؤمنون، وإنه والحال كذلك، فليس ثمة عذر مبيح لتركها، وإن كان ما عذر به الناس لإقامتها صورة، وإن قائمًا، أو قاعدًا، أو على جنبه، أو نائمًا، أو يومئ، وعلى القدرة؛ ولأن تقواه تعالى وعلى قدر ذلكم رحمة، ويسرًا، ورفعًا لحرج.

 

وإنه وإن وجد الماء، فثم وجوب الوضوء، وكشرط لصحة الصلاة، وإنه وإن عدم الماء، أو خيف استعماله، فثم عذر التيمم، صعيدًا طيبًا، وما أكثره! وما أوفره! وإذ كان يمثل الطبقة السطحية الأولى لأرضنا الممهدة لنا.

 

ولئن عرفنا قبلتنا، فثمة توجيه طاقتنا، ومن ثم لا نبرح إلا مصلين، وحيثما ولينا وجوهنا؛ ولأنه ولله تعالى المشرق والمغرب؛ ولأن الله تعالى سبحانه قال: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 115]، وقال تعالى: ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴾ [المزمل: 9].

 

وبل إنه الله تعالى رب المشرقين ورب المغربين؛ وكما قال تعالى: ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ﴾ [الرحمن: 17]، وبل إنه تعالى رب المشارق والمغارب سبحانه؛ وكما قال تعالى: ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ﴾ [الصافات: 5]، وقال سبحانه: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴾ [المعارج: 40، 41].

 

وثناء على رب كريم، أهل الثناء والمجد، وكلنا له عبد، وقد أمدنا بطاقات الصلاة، وحين جعل معاشر المؤمنين به يقفون بين يديه تعالى خمس مرات في اليوم، شرفًا منه، وتشريفًا، ولهذه الأمة القانتة، والمحبة لربها، حبًّا يعلمه.

 

وكذلك الصلوات الخمس يمحو الله تعالى بهن الخطايا، وما أكثرها!

 

فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنَّهُ سَمِعَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: ((أرَأَيْتُمْ لو أنَّ نَهَرًا ببابِ أحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فيه كُلَّ يَومٍ خَمْسًا، ما تَقُولُ ذلكَ يُبْقِي مِن دَرَنِهِ؟ قالوا: لا يُبْقِي مِن دَرَنِهِ شيئًا، قالَ: فَذلكَ مِثْلُ الصَّلَواتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا))[3].

 

ودلك على صحة مذهبنا هذا، ما حكاه الإمام الواقدي رحمه الله تعالى في مغازيه أنه: ((سار رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوطاس، فسلك على نخلة اليمانية، ثم على قرن، ثم على المليح، ثم على بحرة الرغاء من لية، فابتنى بها مسجدا فصلَّى فيه))[4].

♦♦ ♦♦ ♦♦


المشهد الثالث: بل هي اليسرى!

وهذا هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في تغيير الأسماء، ومن الأدنى إلى الأعلى، ومن الأسوأ إلى الأحسن، ويوم الطائف، وإذ سلكوا طريقًا يقال لها: الضيقة، فأسماها صلى الله عليه وسلم اليسرى، ومن اليسر، لا اليسار، وهو الشمال، وبقوله صلى الله عليه وسلم آنف الذكر، وقد كان هذا من هديه صلى الله عليه وسلم، في الأسماء عمومًا، وحين غير اسم أحدهم من حَزْنٍ إلى سَهْلٍ.

 

ولما أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى: ((جَلَسْتُ إلى سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ، فَحدَّثَني: أنَّ جَدَّهُ حَزْنًا قَدِمَ علَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: ما اسْمُكَ؟ قالَ: اسْمِي حَزْنٌ، قالَ: بَلْ أنْتَ سَهْلٌ، قالَ: ما أنَا بمُغَيِّرٍ اسْمًا سَمَّانِيهِ أبِي، قالَ ابنُ المُسَيِّبِ: فَما زَالَتْ فِينَا الحُزُونَةُ بَعْدُ))[5].

 

وكما أنه فألٌ حسن بالأسماء الحسنة، وكما أنه بَعْدُ بالأخرى، ولا أقول تطيرًا، ولأنه ((لا عَدْوَى، ولا صَفَرَ، ولا هامَةَ، فقالَ أعْرابِيٌّ: يا رَسولَ اللَّهِ، فَما بالُ إبِلِي، تَكُونُ في الرَّمْلِ كَأنَّها الظِّباءُ، فَيَأْتي البَعِيرُ الأجْرَبُ فَيَدْخُلُ بيْنَها فيُجْرِبُها؟ فقالَ: فمَن أعْدَى الأوَّلَ؟))[6]، وإنما ولأن الاسم يتطبع به صاحبه، ويتخلق بآدابه.

 

وهذا الذي حدث، ويوم أن أبى جد سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه أن يغير اسمًا سماه به أبوه، وفوق أنه تأبٍّ على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وافتئاتٌ على نبي وقائد أمة، أرسله ربه؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.

 

وإذ كان من حق الأطفال على أبويهم حسن اختيار أسمائهم، وكيما يتأدبوا بآدابها، وكيما يعود على الأبوين أول ما يعود نفعها وثمرها، وكذا الأبناء، ومن قبل ومن بعد أمتهم أيضًا.

 

وفيه سلطة ولي الأمر في تغيير أسماء الأشخاص والمناطق والشوارع، وله ذلك ابتداء أيضًا.

♦♦ ♦♦ ♦♦


المشهد الرابع: إما أن تخرج إلينا، وإما أن نخرب عليك حائطك.

وهذا أدب القتال في هذا الدين، الذي هو الإسلام الخالد، وحين مر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على بستان، وخشية أن ينالهم منه سوء، أو أن يمسهم منه أذى، فأرسل لصاحبه، وإما أن يخرج إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، وإما أن يخربه عليه، وحين أبى، فأنفذ فيه تهديده، وبسلطة القائد الحازم، وبقرار الرائد الحاسم، وهو كذلك رحمة للمؤمنين، وكما أنه رحمة للعالمين، وحين يدخلون ومن سببه في دين الله أفواجًا، وكما أنه صلى الله عليه وسلم نبي الملحمة أيضًا.

 

وهذا سد للذريعة، وأخذ بشبهة، وظن في محله؛ ولأن الأمر حال مقاتلة، ومنه يحذر من مغافلة عدو، أو من معاجلة خصم، وهذا أيضًا من حسن التدبير النبوي، وهو أيضًا من كياسة التخطيط المحمدي، وعملًا للردع العسكري، وفطنة التفكير، وحكمة التدبير؛ وكيما لا يؤخذ الناس على غرة، وحتى لا يهاجمون من بغتة!

 

وكما أنه صلى الله عليه وسلم قد غيَّر اسم رقيق، من المضطجع، إلى المنبعث، ولأنه لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف، خرج إليه رقيق من رقيقهم؛ أبو بكرة، وكان عبدًا للحارث بن كلدة، والمنبعث، ويحنس ووردان، في رهط من رقيقهم، فأسلموا، فلما قدم وفد أهل الطائف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلموا، قالوا: ((يا رسول الله، رد علينا رقيقنا، الذين أتوك فقال: لا، أولئك عتقاء الله عز وجل، ورد على كل رجل ولاء عبده فجعله إليه))[7].

 

ودلك على صحة مذهبنا هذا ما رواه الإمام ابن إسحاق رحمه الله تعالى؛ حيث قال: ((ثم سلك في الطريق يقال لها الضيقة، فلما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن اسمها، فقال: ما اسم هذه الطريق؟ فقيل: الضيقة، فقال: بل هي اليسرى، ثم خرج منها على نخب، حتى نزل تحت سدرة، يقال لها: الصادرة، قريبًا من مال رجل من ثقيف، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما أن تخرج إلينا، وإما أن نخرب عليك حائطك، فأبى أن يخرج، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخرابه))[8].

♦♦ ♦♦ ♦♦


المشهد الخامس: من خرج إلينا من العبيد فهو حر.

وهذا من الحرب الذكية، ولإضعاف جبهة الخصم من جانب، وهو مهم وعظيم، وكيف ذهب الإسلام كل مذهب ممكن؛ للقضاء على مملكة العبيد، والتي كانت ناخرة في أنظمة القوم يومهم هذا، ولإفلات الأرقاء منهم، وإلى بحبوحة الحرية، والانطلاق نحو آفاق الحرية، والانعتاق من رين الاستعباد، ومن جانب آخر، وحين كان لله تعالى وحده لا شريك له.

 

ودلك على صحة مذهبنا هذا ما رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف: ((من خرج إلينا من العبيد، فهو حر، فخرج عبيد من العبيد فيهم أبو بكرة، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم))[9].

 

ولذا؛ فقد فتح الإسلام الحنيف الخالد بابًا واسعًا للتحرر من هكذا ما يكون سبب انكسار، ولغير الله تعالى العزيز القهار، وحين جعل أن كل عبد جاء من دار الحرب إلى دار الإسلام عتق حكمًا شرعيًّا مطلقًا عامًّا.

 

وهذا باب رأينا الناس فيه كم جالوا! وكم ألفيناهم فيه قد صالوا! وإذ نقعد لهذا، ونؤصله، مرة أخرى، ولنضعه على باقة من زهور، وأمام مائدة الناس أجمعين؛ وليروا ديننا، ومن ثقب لا خفي، بل من طرف جلي.

♦♦ ♦♦ ♦♦


المشهد السادس: ((من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه، فالجنة عليه حرام)).

وهذا حديث صحيح رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، وهو حديث يحمي قاعدة السلم الاجتماعي في بابها الأوسع، وحين منح، وحين منع.

 

فإنه منح الأب حق نسبة الولد إليه، وكما قد تضمن هذا منع الولد من الافتئات على هذا الحق الأبوي، والذي خوله إياه القانون الإسلامي.

 

وفي ذات الوقت منع أيًّا من كان أن ينسب ولد غيره إليه.

 

وهذا القانون يمثل حفظًا للكيان الاجتماعي، وتقريرًا لقواعد النسب.

 

إلا أنه قائم على قاعدة العلم بالحكم، ومنه فإذا انتفى العلم، فلا إثم، ولطالما قد بحث فيه بحث الرجل المعتاد، وطاقته ووسعه، وبذله وسعيه.

 

ومن جانب آخر، وضع الإسلام لمثل هذه المسألة حلًّا، وإن وجدت في الواقع، وإذ كان قول القرآن الحكيم في هذا فصلًا، وحين جعل المؤاخاة بدلًا، وحين جعل الولاء عوضًا، وحال حالة النسب، وكيما لا تختلط الأنساب، وكيما يكون الوالد في معزل عن اللعب بنتاج صلبه، ولغايات مختلفة، أو أخرى متباينة، وحين ذلك يكون العقد الاجتماعي في حكم المنهار، وهو ما وقف الإسلام عنده موقفًا حصينًا، منيعًا، حازمًا، حاسمًا؛ وحين قال الله تعالى: ﴿ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 5].

 

ومنه فإن هذه الآية الكريمة، وضعت الأسس وقعدت الأصول؛ وهي:

١- تقرير قاعدة النسب الأولى، وحين كان النسب إلى الأب، وليس إلى غيره.

 

٢- عقد الأخوة في الدين، وكبديل، عند عدم العلم بالأب.

 

٣- عقد الموالاة، وهذا كمثل عقد المؤاخاة تمامًا.

 

٤- العفو عن الخطأ، وحين لم يكن عمدًا، وهذه سعة رحمة رب العالمين، وحين وضع لكل مناسبة حلها.

 

هذا وقد روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى حديثًا قال فيه: ((ليسَ مِن رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أبِيهِ - وهو يَعْلَمُهُ - إلَّا كَفَرَ، ومَنِ ادَّعَى قَوْمًا ليسَ له فيهم، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))[10].

♦♦ ♦♦ ♦♦


المشهد السابع: ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ﴾ [البقرة: 187].

اصطحب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم معه امرأتين من نسائه، وحين كان حصاره صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف، وكيما ينزلوا على حكم الإسلام الخالد.

 

وهذا برهان قيمة المرأة عند زوجها في هذا الدين الخالد أيضًا، وإذ كان يقرع صلى الله عليه وسلم بين نسائه يوم سفره، وكيما لا يدخل في قلب إحداهن شيء، وكذا ما جعل الله تعالى من وجود المرأة لزوجها سكنًا، سفره وترحاله؛ وحين قال الله تعالى: ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ﴾ [البقرة: 187]، وهذه مرة أخرى قيمة المرأة في هذا الدين، صاحبة قامة، وقائدة بيت، وراعية أسرة، وحاضنة أولادها وبناتها، وقائمة على راحة المحضن الأول في تنشئة جيل مسلم فريد، ليستحضر من أمامه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ذلكم الماضي التليد، وهذا الحاضر السعيد، ومستشرفًا ذلكم المستقبل الهني الرشيد أيضًا.

 

ويكأننا ننظر بفخر إلى أمة جعلت من المرأة المسلمة شقيقة الرجل، لا من قولنا، وإنما هو قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وحين قال: ((النساء شقائق الرجال))؛ وحين ((سُئلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عنِ الرَّجلِ يجدُ البللَ ولا يذكرُ احتلامًا، قالَ: يغتسلُ، وعن الرَّجلِ يرَى أنَّهُ قدِ احتلمَ، ولا يجدُ البللَ، قالَ: لا غُسلَ عليهِ، فقالَت أمُّ سُلَيمٍ: المرأةُ ترَى ذلِكَ، أعلَيها غُسلٌ؟ قالَ: نعم، إنَّما النِّساءُ شقائقُ الرِّجالِ))[11].

 

وإذ كانت مناسبة غزوة الطائف، وبمثل ما ذكر من إطناب، وبسبب ما احتفيناه من إسهاب، تقريرًا تقريرًا لأهمية المرأة في هذا الدين، وتعزيزًا تعزيزًا لمجتمع رشيد، أعلى من قيمتها، وألبسها تاج التحية، والاهتمام، والوقار، والوفاء، وحين أعلى من ذلكم، حتى تنسمت عبق النسيم.

 

وأيم الله، ويكأنها راعية بيتها، وحاضنة ابنها وبنتها.

 

وهذا النبي العربي الأبي الأمي الوفي صلى الله عليه وسلم، وحين يقرع بين نسائه، وتطييبًا لخواطرهن، فهذا أيضًا أسلوب إداري عبقري، في إدارة المنازل، كريمًا، حليمًا، وحين يزاوج هذا النبي صلى الله عليه وسلم الأمي العربي الكريم، بين حاجات الأمة شاملة، وبين حاجات بيوتاتها جامعة أيضًا، وهكذا ديننا، لا إفراط في جانب، وعلى حساب جانب آخر، وإلا عُدَّ تفريطًا أيضًا.

 

وهذا تقرير لقيادة الأمم، وكيف تكون، اهتمامًا بها، ومن أول محضن فيها، وهو الأسرة، وعلوًّا بها، نحو آفاق المجد والعلا، وفي نفس الوقت، وإذ ها هو صلى الله عليه وسلم يحاصر أهل الطائف، قيادة عسكرية مجيدة، ورعاية أسرة كريمة رشيدة.

 

بيد أن معنى واسعًا كريمًا، حسُن التنويه إليه، وغير أن شأنًا كبيًرا عظيمًا، وجب التعويل عليه، وحين رأينا كم كانت المسافة بين امرأتين من نسائه صلى الله عليه وسلم، إحداهما عن الأخرى، وإذ تعدان في محيط متقارب واحد، وما بينهما غير مسجد، قيمة للمسجد، وقيمة للصلاة، وقيمة للمرأة، وقيمة للزوجة، وهذه أربعة من واحد، وإذ كان قرب المسافة بين الزوجتين، نبأ عن اهتمام هذا النبي صلى الله عليه وسلم بأسرته، ولو كان الحال حربًا!

 

وهذه رسالة إلى معددي الزوجات أن يقربوا مسافات الإقامة، فلا يرهق الزوج، ولا تعنت الأسرة، ومن جراء ما تراه المجتمعات من كبد، وحين تكون إحداهن في محلة، وأخراهن أبعد عنها، ومن محلة نائية أخرى.

 

وهذا هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ نقدمه للعالمين، راعيًا أسرة، وقائدًا أمة!

 

وإذ لا ينسينا هذا العرض الحاني اللطيف، وعن عطف نبي على أسرته، وحين يحاصر أهل الطائف، وعلى ما أنف، سيرة عسكرية حسنة أيضًا، وعبقرية إدارية فذة، وكيما يحافظ على دماء الناس، وإلا إذا أبوا، وإلا إذا رفضوا وعتوا، وإذ ها هنا تكون المقصلة، وإذ ها هنا يكون حكم المسألة، وإذا لم ينزل الخصم، ومن بعد الحصار، فثم السيف والرمح والمنجنيق!

 

وهذا الذي حدث يوم الطائف، ولما لم ينزلوا على حكم الإسلام الخالد، ومتمثلًا في شخص هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فثم السيف، وإذ رماهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالمنجنيق، عملًا عسكريًّا باهرًا، وإذ كان أول من رماهم به هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي بادرة مؤذنة بهذا الاستعداد القتالي، وإذ كان منه تملك أحدث أسلحة الحين، ولمجابهة المرجفين، على مدار الزمان، وحيز المكان أيضًا.

 

وهذه رسالة أخرى أن تتسلح أمتنا بسلاحها، وسائر أمرها، استغناء واكتفاء، وأن من يملك قُوْتَه وقُوَّتَه ملك قراره.

 

والعكس عكس أيضًا!

 

وإذ لا يفوتنا قول من قال: إن أول من رمى القوم بالمنجنيق هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

 

ودلك على صحة مذهبنا هذا أنه رمي عبدالله بن أبي بكر الصديق يومئذٍ، فاندمل الجرح ثم انتفض به بعد ذلك، فمات منه، فارتفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع مسجد الطائف اليوم، وكان معه من نسائه أم سلمة وزينب، فضرب لهما قبتين، وكان يصلي بين القبتين حصار الطائف كله، فحاصرهم ثمانية عشر يومًا، ونصب عليهم المنجنيق[12].

 

وقال: ((فحدثني من أثق به أن النبي صلى الله عليه وسلم أول من رمى في الإسلام بالمنجنيق رمى به أهل الطائف))[13].



[1] صحيح البخاري: 3030.

[2] صحيح البخاري: 2664.

[3] صحيح البخاري: 528.

[4] المغازي، الواقدي: ج: 3 /924.

[5] صحيح البخاري: 5717.

[6] صحيح البخاري:6193.

[7] السنن الكبرى، البيهقي: ج: 9/229، وقال الإمام البيهقي رحمه الله تعالى: وهذا منقطع.

[8] تاريخ الطبري، الطبري: ج: ٢/ ٣٥٤.

[9] السيرة النبوية، ابن كثير: ج: ٣/ ٦٥٧.

[10] صحيح البخاري: 3508.

[11] صحيح أبي داود، الألباني: 236.

[12] الطبقات الكبرى، محمد بن سعد: ج: ٢/ ١٥٨.

[13] الروض الأنف، السهيلي: ج:7/ 235.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/151973/#ixzz7H6YMFALv