لا يقرأ الإنسان ليمارس فعل القراءة فحسب، أو ليحسب على أهل الثقافة والمعرفة فينال حظوة الدخول في مسلكهم وشرف الانتماء إلى دوائرهم. ولا يقرأ الإنسان ليمارس فعل القراءة كحاجز نفسي بينه وبين الخائضين في الترهات والهموم الدنيا، وبشكل أدق لا يقرأ الإنسان دون أن يعرف الهدف الذي يحركه لممارسة هذا الفعل والثمرة المرجوة منه، وبكل وضوح ودقة.
ودون إجابة واضحة عن سؤال الجدوى من فعل القراءة ولماذا أقرأ فإن المرء سيظل مشتغلا بالقشور بعيدًا عن إصابة الغاية الحقيقية من كل عملية التعلم.

يقرأ المرء منا ليكتسب فهمًا أدق وأعمق لنفسه وأغوارها وما يعتور تصوراته من القصور المفتقر إلى البناء والترميم، وسلوكه من العطب المفتقر إلى المعالجة. ليفهم الوجود والحياة من حوله والسياق الذي ولد فيه ويعيش فيه الآن وكم هو مستوعِب له ومستوعَب فيه فيجود من أدوات التعاطي معه ويحسن من خياراته الحياتية، ولتساعده تلك القراءة على بناء فهم نقدي لمساراته الشخصية.
يقرأ المرء منا ليفهم المطلوب منه على وجه الدقة في فترة مكوثه على هذه الأرض والغاية المطلوبة منه وسبيل تحصيلها، وليباشر على إثر تلك القراءة في ميدان العمل.
يقرأ المرء منا ليحقق العبودية التي وجد لأجلها، وليعيش هذه الحياة على مراد الله منه.

القراءة ليست متعةً أو غرضًا للترفيه والتخفف، هذه حالة لا يمارسها مرءٌ يحس بوطأة وجوده على هذه الأرض، وموقعه فيها، ومآله بعد مغادرتها، وجديّة الحياة التي وُهبها، والمسؤولية التي تقع على عاتقه.

والذين لا يقرؤون بغرض العمل مستحضرين لموقع هذه القراءة وأثرها في تحركهم بعيدون عن إصابة الغرض الأسمى من هذه الممارسة، معرضين لوحش التكاثر والاستعراض والتباهي والاستطالة بذلك العلم أن يلتهمهم، محاصرين بسؤال الجدوى عند عروض إجابته الصحيحة.

ولعل هذا ما يحدو بأرباب الحقائق وأولي النبوغ بالوقوف الطويل عند بعض الكتب والتكرار المستمر لها، والتأمل والتقليب الذي يمتد لساعات بله أيام لبعض العبارات والجمل، وتفطنهم إلى أن المبثوث من علمٍ بين دفتي هذا الكتاب أو ذاك كفيل بأن يُحدث انقلابًا على مستوى التصورات والسلوك يكون منعطفًا في مسيرة قارئه ولحظة فارقة.