لطائف من غزوة الطائف (1)


تمثل غزوة الطائف فصلًا جديدًا من فصول هذا البذل المبارك، ولهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه من أولاء الصحب الكرام رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وكما وأنها تمثل حلقات من حلقات يوم حنين ويوم أوطاس معًا، وإذ شكل هذا الثلاثي وفي عقدنا سلسلة متصلة، ولربما جاز التعبير، ولنفرة واحدة، وإن كان لكل منها سمتها، وإذ كان لكل منها شخصيتها الاعتبارية المستقلة، وكحلقة من حلقات مرت بها هذه الدعوة المباركة، ولاسيما في سني مراحل تأسيسها، وعلى عين نبي الله تعالى ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأيضا وإن تميزت كل مرحلة من مراحلها، وبما تتميز به كل غزوة، وعلى انفرادها، وهذا ما منح كلًا زخمًا مركبًا، وحين التأم بأخرى معه، فكان مركبًا مضاعفًا، وحين كان كلا من ثلاثة أجزاء، فأصبح جمعًا مؤلفًا من أضعاف مضاعفة أخر، وإن كل ذلكم ولما منحه زخمًا آخر، كان وكما ألفيناه، ويراه قارئ كريم، وكم هو زخمه، ولما أضحى زخمًا مركبًا، من أضعاف كثيرة!

 

وقد تسنى لنا أن نصاحب فيها نبينا محمدًا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، معينًا غدقًا للتربية، وكتابًا مفتوحًا للتدريب والتعليم والبذل والتفاني.

 

وها نحن قد اخترنا نماذج مَرَّتِنَا هذه، ولنطوف حولها، مستلهمين الرشد من الله تعالى، ومستشرفين الصواب، من العليم الخبير القدير، ربنا الرحمن سبحانه، وعلى نحو مؤلف من مشاهد عدة، وقد كان الاختيار هذه الفينة لمشاهد ثلاثة هي:

المشهد الأول: من بلغ بسهم فله درجة في الجنة.

المشهد الثاني: لا يَدْخُلَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُنَّ.

المشهد الثالث: إنَّا قَافِلُونَ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ.

 

المشهد الأول: من بلغ بسهم فله درجة في الجنة

هذا قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، النبي العربي الأمي الكريم صلى الله عليه وسلم، يوم غزوة الطائف، وهذا بيان فضل منزلة الرمي في سبيل الله تعالى، وحرص كل مسلم على أن يرمي، وألا يرمي إلا في سبيل الله تعالى. وهذان الأمران العظيمان عليهما المدار في عمل العبد عمومًا، وفي الجهاد منه بوجه أخص، ولأنه ولئن لم تبذل النفوس رخيصة لله تعالى، فإن صدق الإيمان يكون محلا لنظر، وإن بيضة هذا الدين تكون محلًا لخطر، وحين تتقاذفها أمواج عالية عاتية، من تغيير دفة إخلاصها، ومن تمييع موجة جهادها.

 

وهذان أمران اثنان، ولكنهما عظيمان. وليس ذلكم فحسب، وإنما لما فيهما من استدعاء طاقات البذل، ولما فيهما من مجاهدة النفس، وألا يحملها حامل على العمل، إلا ذلكم البر والإخلاص لله تعالى رب العالمين.

 

وإذ كان منه استدعاء هذه الطاقات أيضا، والذي قال عنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم آنفًا: « من بلغ بسهم فله درجة في الجنة »، وإذ كان المؤمل هو عمل تحفيزي، يجعل من ولائهم لله تعالى، فعلًا مبرورًا، ثم لهذا الثغر عملًا ميسورًا.

 

ولهذا السبب كان من عمرو بن عنبسة، رضي الله تعالى عنه، وحين روى هذا الحديث، أنه رمي ستة عشر سهمًا، وكلها في سبيل الله! ومن كلمة حنو واستلهام، واستدعاء نبوي كريم.

 

وإذ كانت من مناسبات الجهاد، وغيرها مناسبة أخرى ضافية مواتية، لاستدعاء طاقات الخير، ومحبة فعله، وكيما يتنشأ مجتمع البر والتقوى، والسلام والإسلام والبذل، وإذ ليس من مناط الجهاد، ومن محله وحسب، وإنما في كل شعيرة من شعائر ديننا، وحين كان هذا الدين كله مشاعل خير، ومشاعر فلاح، وهدى للعالمين، يستضيئون بنوره، ويهتدون بهديه، آناء الليل، وأطراف النهار، فيجدون به راحتهم، ويتلمسون منه هديهم، وأمنهم، وصوابهم وعدلهم.

 

وإذ ما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليدع فرصة أو مناسبة مواتية إلا ويقول لنا فيها قولًا جميلًا رشدًا، وإلا ويحرك في نفوسنا عملًا جليلًا سدادًا.

 

وهذا الذي حدث يوم حصار الطائف، وكما جاء عن أبي نجيح عن عمرو بن عبسة السُّلَمِي رضي الله تعالى عنهما قال: حاصرنَا مع النبي صلى الله عليه وسلم الطائفَ، فسمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من بلغَ بسهمٍ في سبيلِ اللهِ، فهو لهُ درجةٌ في الجنةِ. قال: فبلغتُ يومئذٍ ستةَ عشرَ سهمًا، وسمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: من رمَى بسهمٍ في سبيلِ اللهِ، فهو عدل محرّرٌ، ومن شابَ شيبةً في سبيلِ اللهِ، كانت له نورًا يوم القيامةِ، وأيّما رجل أعتقَ رجلا مسلمًا، فإنَّ اللهَ عز وجلَ جاعلٌ وِقاءَ مكانَ كل عظْمٍ من عظامِ محررهِ عظمًا من عظامهِ من النار، وأيّما امرأةٍ مسلمةٍ أعتقتْ امرأةً مسلمةً، فإنّ اللهَ عز وجلَ جاعلٌ وِقاءَ مكانَ كلِّ عظمٍ من عظامِ محررتها عظمًا من عظامها من النارِ[1].

 

ورواه الإمام أبو داود أيضا عن عمرو بن عبسة بلفظ: من بلغَ بسَهمٍ في سبيلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ فلَهُ درجةٌ...، وساقَ الحديثَ، وسمعتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: أيُّما رجلٍ مسلمٍ أعتقَ رجلًا مسلمًا فإنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ جاعلٌ وقاءَ كلِّ عظمٍ من عظامِهِ عظمًا من عظامِ محرَّرِهِ منَ النَّارِ وأيُّما امرأةٍ أعتقتِ امرأةً مسلمةً فإنَّ اللَّهَ جاعلٌ وقاءَ كلِّ عظمٍ من عظامِها عظمًا من عظامِ محرَّرِها منَ النَّارِ يومَ القيامةِ[2].

 


من حقوق الإنسان في الإسلام

وهذه أربعة أخر منضافة إلى ما قبلها، وفي مناسبة يوم حصار الطائف، رغبةً في إسلامهم، وتناسيًا ليوم حصارهم هم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويوم أدموه رميًا بحجارة محلتهم، وجرحًا لنبي جاءهم بالهدى ودين الحق؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور.

 

وأقول: إن بين أيدينا الآن قولا نبويًّا، زكيًّا، كريما، مركبًا من وجوه خير عديدة، وإذ كان منها:

الوجه الأول: جعل الرمي بسهم واحد عِدْلَ محررٍ واحدٍ!

وهذا وكما قلت استدعاء، وحين جعل الرمي بالسهم الواحد له فضلان، وجمعا بين الدليلين:

 

الفضل الأول: جعل الرمي بسهم واحد بدرجة واحدة في الجنة.

 

الفضل الثاني: جعل الرمي بسهم واحد، وعدل أن يعتق المسلم رقبة واحدة أيضا، وهذا مصداق لدعوة الإسلام إلى التحرر من الرق والعبودية، وحين كانت ولو من وجه، وكونه إذلالا للرقاب، ولما جاء الإسلام الحنيف الخالد، وليكرم هذا الإنسان، وجعل رأسه مرفوعة عالية، تطاول السماء، تكرمة وعلوا، ومن تواضع، ومن هوينى، وحين قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70].

 

الوجه الثاني: وأن من شاب شيبة في الإسلام فكانت له نورًا يوم القيامة، وهذا الحديث على ظاهره، وفأل حسن بباطنه، وإن وعيدًا قد أمروه، وكما جاء، وإذ كان الوعد أولى؛ ولأنه يفتح صفحات الخير، وإشراقات الهدى على الناس، ولما كانت شيبة العبد في الإسلام، ذلكم الدين الذي كرم هذا الانسان، ومن يوم كان نطفة من مني يمنى، والى كل درجة من درجات عمره، وفي كل مرحلة من مراحل حياته، ولدى كل طور من أطوار سنيه وأجله، وإلا وهذا الدين يرقبه ويكرمه، ويعلي من شأنه، وحتى بلغ هذا العمر الطويل، وحين أمهل هذا الاجل المديد، وحين حلت صبيحة يوم شيبته، وإذ كان فضلا من الله تعالى أن يجعلها له نورا في الآخرة، وبرهانا على الرضا، وعلامة على التعلية والقبول، ومن شأن من شاب في الإسلام شيبته، وبرهانا على التتويج والوقار والتجاوز. وهذا من حسن ظن العبيد بربهم الرحمن الرحيم سبحانه، بل هو من المن العميم لهذا الرب الرؤوف الكريم سبحانه، وحين يظلل حياة عبده بذلكم ظلال العفو والتجاوز الحسن الجميل، وحينها يقبل عبد على ربه حسنا ظنه به، وإذ يستشرف رضاه، وحين ينظر من باب واسع عفوه وتجاوزه سبحانه، فيقبل مطمئنا آمنا راضيًا مرضيه وحين يستحضر، وهو يرمق من رمقه الأخير قول ربه الرحمن الرحيم: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 29].

 

وهذا العبد الصالح الذي شاب في الإسلام شيبته، وليعض على ذات حواسه، وأن تسمو، وليأخذ على ذات نفسه أن تخشع، وليربت على ذات صدره أن يخضع، لهذا الرب الكريم الكبير المتعال سبحانه، عملا آخر متقبلا، ولينضاف الى شيبته، والتي كانت تتويجا لأعمال صالحة سبقت، والتي كانت توسيما لتاريخ حافل بالهدى والاستقامة والرشد والسلام والفلاح والصلاح، قد أنف، وما مرت لحظة من عمره، وإلا كان فيها عبدا لله تعالى مولاه الحق المبين، وهو إذ يستحضر أيضا ما قال ربه تعالى، ونصب عينين، لا عين واحدة، يضعه، ويترسمه، ويعمله، ويفعله، ويحققه، وكل حين أيضا، ولما قال الله تعالى ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162].

 

وحتى وحين يعثر مرة، وإنما كان ذلك، ولما كان لكل جواد من كبوة، ولكنه سرعان ما يستيقظ، وتستيقظ معه أمارات الأوبة، وحين تعانقت معها مشارف التوبة، وحين كان الاستغفار له سبيلا، ونظاما، ودينا، وطريقا مستقيما، وحين علم أنه له ربا يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم سبحانه، وحين قال الله تعالى ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر:53].

 

الوجه الثالث: وأيما رجل أعتق رجلا مسلما، فإن الله جاعل كل عظم من عظامه وقاء كل عظم بعظم، وهذا ينضاف الى الوجه الأول، وحين تضافرا على فتح الأبواب، وأمام هذا التحرر من رق، وعند هذا التحلل من عبودية، إلا لله تعالى ربنا الحق المبين سبحانه.

 

وإذ نقدم هذا البيان بين أيدينا جميعا، ولعل غيرا يراه، أو يسمع به، أو أن يتسمع له، وحين علم الناس عن ديننا أنه هكذا يفتح أبواب الحرية، ويصون الكرامة الإنسانية، ويحفظ الأنفة البشرية، وبحدها الواسع الفضفاض، وهذه هي مظلة حقوق الإنسان في ديننا أيضا.

 

الوجه الرابع: وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله جاعل كل عظم من عظامها وقاء كل عظم من عظامها من النار.

 

وهذا ليشمل النساء، وجنبا إلى جانب مع الرجال، في توجيه دفة المجتمع المسلم كله، نحو غاية واحدة، وهدف واحد، وحين كانت العبودية، وليست تكون إلا لله تعالى الحق المبين، ومنه فان هذا الرقيق، وكما قلت، ولو من وجه فان فيه عبودية، وكفى به اسمه، وكما دل عليه رسمه، ولينفر الناس جميعهم عنه نفرة واحدة، عاجلة لا آجلة، نساؤهم ورجالهم، على أن يتساعدوا، ويتعاونوا، ويتكاتفوا، ويأخذ أحدهم بيد أخيه، ونحو فضل هذه العبودية لله تعالى وحده، وجعل الناس كل الناس أرقاء لربهم الرحمن وحده، وحين كان منها جعله لهم مكرِّما، وأيما تكريم.

* * *


المشهد الثاني: لا يَدْخُلَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُنَّ

وعن أم سلمة أم المؤمنين: دَخَلَ عَلَيَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعِندِي مُخَنَّثٌ، فَسَمِعْتُهُ يقولُ لِعَبْدِ اللَّهِ بنِ أبِي أُمَيَّةَ: يا عَبْدَ اللَّهِ، أرَأَيْتَ إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ غَدًا، فَعَلَيْكَ بابْنَةِ غَيْلَانَ؛ فإنَّهَا تُقْبِلُ بأَرْبَعٍ، وتُدْبِرُ بثَمَانٍ، وقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لا يَدْخُلَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُنَّ. وفي رِوايةٍ: وهو محاصر الطائف يومئذٍ[3].

 

وهذا حديث صحيح، رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، وهو يبين شأن المخنث، وهو ذاك الرجل الذي يحمل من صفات الأنثى ما لا يجعله يومي إلى النساء ميلا، وإما طبعا وجبلة، وإما تطبعا. وهذا مشاهد.

 

والشأن في هؤلاء أنهم يدخلون على النساء، ولما أنف، وإلا أن هذا المخنث، ومن كان على شاكلته يراعى التحجب منه، وحين وصف امرأة، وكأنما لا يستطيع وصفها، وبهذا النعت الممعن في الدقة، والجامع لذكر ما منه تروح إليهن الرجال، وما ليس يمكن لرجل صحيح وصفه!

 

وإذ ليس يهمنا من كان ذلك المخنث اسما، وسواء كان هو هيتٌ، أو ماتعٌ، وبقدر ما يهمنا هذا الحكم الشرعي، وحين أمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ألا يدخل على النساء، من كان ذا وصفه، ولو كان معروفا بأنه مخنث.

 

ولكن الأمرَّ من ذلك، أن القوم تساهلوا في الدخول على النساء، وكما أن النساء تساهلن في الدخول على الرجال، وكان من حاصل هذا وذلك ما أنَّتْ منه البشرية، ومن ويلات التفكك الأسري، ومن نتائج هذا الاختلاط الاجتماعي، وممن ليسوا بخنثى، وحين كان من وصفه لهكذا امرأة من ثقيف، أو من غير ثقيف، ومالا يقدر على قوله هذا، وبأمعن عبارة، من قد بلغ في التنظير الأدبي مبلغا حسنا! ولما كان تقعره وصفا ونعتا، ولهذه التي وإذا أقبلت أقبلت بأربع أو تزيد! وحين تدبر ولا تدبر إلا بثمان أو تزيد أيضا! وهذا من ظلال قوله، وهذا من وراء نعته ووصفه، وحين تبين لنا، ومن مثل هذه الزيادة، وليس وقفا على رباعيته، أو قيدا على ثمانينيته! ومنه كان هذا النهي المحمدي الحازم، ومنه كان هذا القول النبوي الحاسم، وعلى قدر الخطوب تكون النوازل!

 

وهذا خلل اجتماعي، وهذا شرخ مجتمعي، يحسن بل يجب معالجته، وحين نصبو جميعا الى مجتمع الطهر والعفاف والإحصان.

 

وإلا أن ما يلفت النظر أيضا، وحين دل على عقل راجح، ولهذا المخنث، وهو ذاك فأله الحسن، وبفتح الطائف غدا!

 

وإلا أن وما يلفت النظر أكثر أيضا، هو ذلك علم المخنث بأحكام السبي والاغتنام! برهان أمة أخرجت أفرادها علماء، ودليل أمة أنبتت منتسبيها فقهاء! ولو من هذه الفئة المخنثين، ولأن العلم الشرعي شارة، ولأنه أجمل عبارة، وأوسم راية، وعلى أن هكذا أمة كانت جديرة أن تتربع على كراسي قيادة العالم وحكمه، ويوم أن جعلت العلم قبلة، ويوم أن جعلت الإبداع والابتكار والاختراع مهنة ومَئِنَّة.

 

وكما أن فيه دليلا على الحجاب، وإلا ما كان أمره صلى الله عليه وسلم لأم سلمة أم المؤمنين، ألا يدخلن عليهن مثل ذلكم صنف، ومماثلة بغيره ممن هم على غير صفته، ولو كان مشهورا بأنه خنثى، وما بالنا بمن ليسوا بخنثى؟!

 

وكما أن فيه مسؤولية الرجل في بيته، وأن رعايته من أصل ما خوله له ربه تعالى من سلطان؛ حماية لبيته وأسرته، ومن أن يشابها شائبة، ولئن كان هذا هو التطبيق العملي، ولئن كان هذا هو التنفيذ الفعلي، لمقتضى اسم الراعي الأبي، وحين كان تاجا على رؤوس الخلاق الحسان، وإذ كان متربعا قمم جبال رواسٍ، من نبل الشيم، وكريم القيم، وعظيم النحل الجليلة، وكريم الشيم النبيلة، وحين وسم بهذا الوسام النبوي الخالد، إعمالا لرعايته، وتفعيلا لولايته على بيته، وقيادة أسرته، مهارة، وإتقانا، وفي غير صرعة لهذا البيت، الذي هو اللبنة الأولى، في تنشئة مجتمع الطهر، والعفاف، والفضيلة، والقيم النبيلة الجميلة، والحياة معا، وحين قال صلى الله عليه وسلم: كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ، فالأميرُ الذي على الناسِ راعٍ عليهم، وهو مسؤولٌ عنهم، والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتِهِ، وهو مسؤولٌ عنهم، والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بعلها وولدِهِ، وهي مسؤولةٌ عنهم، وعبدُ الرجلِ راعٍ على بيتِ سيدِهِ، وهو مسؤولٌ عنهُ، ألا فكلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ[4].

 

ولكن الملفت أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، وحين وجه لزوجه أم المؤمنين أم سلمة، رضي الله تعالى عنها، وإنما كان بالحسنى، ولم نسمع ضجيجا، ولم يك يعرفه، ولا يعرفه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حلما خلقيا، وجبلة طبعية حسنى، قد تَوَّجَهُ الله تعالى بها، وإلفا ربانيا، قد حباه ربنا الرحمن به، وحين كان بهذا الأدب الجم، وهو ذاك الذي عنه صلى الله عليه وسلم نعلمه.

 

وإذ وما كان الرفق في شيء إلا زانه، واذ وما منع منه من شيء إلا شانه، وتشرفا بقوله، وتيمنا ببيانه، صلى الله عليه وسلم، وحين قال: إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَهُ. وَزادَ في الحَديثِ: رَكِبَتْ عائِشَةُ بَعِيرًا، فَكانَتْ فيه صُعُوبَةٌ، فَجَعَلَتْ تُرَدِّدُهُ، فقالَ لها رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ عَلَيْكِ بالرِّفْقِ...، ثُمَّ ذَكَرَ، بمِثْلِهِ[5].

 

وإلا أن هذا المخنث وصاحب حديثنا ههنا، وإن هو إلا ذاك الذي لا ميل منه للنساء، وهذا حكمه وأن يؤخر، وحين غلب على الظن وصفه لهن، وكما أنف.

 

وإلا أنه أيضا ليس بذاك الخنثى، الذي منه عمل قوم لوط، وإلا فإن هذا له حكم آخر، وليس ذلك منه من شيء.

* * *

 


المشهد الثالث: إنَّا قَافِلُونَ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ

وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه: لَمَّا حَاصَرَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الطَّائِفَ، فَلَمْ يَنَلْ منهمْ شيئًا، قالَ: إنَّا قَافِلُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَثَقُلَ عليهم، وقالوا: نَذْهَبُ ولَا نَفْتَحُهُ! -[وفي رِوايةٍ]: نَقْفُلُ- فَقالَ: اغْدُوا علَى القِتَالِ. فَغَدَوْا فأصَابَهُمْ جِرَاحٌ، فَقالَ: إنَّا قَافِلُونَ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ. فأعْجَبَهُمْ، فَضَحِكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وفي رِوايةٍ: فَتَبَسَّمَ[6].

 

وهذا حديث صحيح، رواه الإمام البخاري، رحمه الله تعالى.

 

وفيه بيان، وكيف عانى هذا النبي العربي الأمي الكريم صلى الله عليه وسلم، وكما أن فيه برهانا، وأنه كيف بذل معه صحبه الكرام رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وحتى أسلموا لنا هذا الدين، ومن بعد بذلهم وفنائهم في الله تعالى ربهم، أمانة في الأعناق، وأن تسلم إلى من بعدهم، وكما سلمت لنا، محجة بيضاء، ليلها كنهارها، لا يضل عنها إلا هالك، ناصعة بيضاء، بيض النهار، أو أشد بياضا منه، وحين خرجوا، ولم يخرجوا إلا لله تعالى العلي الأعلى سبحانه، ولم يخرجهم سواه تعالى، وبرهان هذا أنه صلى الله عليه وسلم، ولما أشفق عليهم، وحين شق عليهم، فَتْحُ حصن الطائف المنيع، فأشار عليهم أن يقفلوا، ومن غد، واستلهم رأيهم، وفقها رشدا أبداه لهم، وحين أصروا رضي الله تعالى عنهم، وألا يرجعوا إلا بنصر مهيب مُحْتَرَم، وألا يعودوا إلا بفوز مُعَظَّم مُفَخَّم، وحين اجتمعت عليهم ثقيف هوازن، ومن معهم من هؤلاء وهؤلاء، وحين استقووا، ولرد هزيمتهم يومي حنين وأوطاس، وما هم بضارين من أعمالهم وليا لله تعالى من شيء!

 

ولكن هذا النبي صلى الله عليه وسلم، ورغم أنه كان يعمل بالوحي، وإلا أن مساحة عريضة، تركت للمؤمنين، شورى بينهم، وكيما يعدهم نبيهم قيادة زمانهم، وحيث لا وحي، وإنما يردون كل شيء من أمرهم إلى الله تعالى، وأن نعم، وإنما بهذا السبب الموجب أيضا، وإذ إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة!

 

ولهذا السبب، وحين رأى نبيهم صلى الله عليه وسلم رأيا مباينا، وإنما لم يرده، بل في سمت القائد الحني، وبل في رد الرائد الهني، وحين اكتفى صلى الله عليه وسلم بضحك، أو ابتسامة، وها نحن وكأنما نراه بلسما باسما على الشفاه، ويوم قبل الرأي، وعلامة على عدم اليأس، وبرهانا على شدة البأس، ودليل سعة صدر القائد، وألا يضيق صدرا، وحين كانت مؤشرات قوة خصمه، ولأن الأيام دول، ولأن النصر آت، وكفي بهوازن ثقيف هزيمة مرتين: يوم حنين، ويوم أوطاس، وليعشموا وليطمعوا في نصرهم، ويوم طائفهم! وإنما وسوف يفجأون بنصر المؤمنين، وعلى أولاء الهالكين، حين لم يعوا الدرس مرتين: يوم حنين، ويوم أوطاس، وإن يوم الطائف لقريب، وإنما أراد الله تعالى ربنا، وألا يقدم للمؤمنين نصرهم، وعلى طبق من ذهب، بل بذل، بل فناء، بل تضحية بل فداء!

 

هذا، وحسنت وقفة، بل وجبت تأملا، وأمام قوة حصن الطائف، وحتى كانت شوكة، ولا شك، وأمام المجاهدين المؤمنين. وأمام خصومهم التي كانت لها يد طويلة، وفي قتالهم.

 

وهذا برهان أن تعد الأمة عدتها، وألا تستهين بعدوها، وألا تقلل من خصمها، وإنما أن تعد عدة لا مكافئة، بل راجحة الكفة، ويومها أمكنهم تحويل الدفة، والى نصرهم، وعلى عدوهم.

 

وهذا الأمر ليس يتحقق نظريا، بل عمليا، وحين تدأب القوات المسلحة الإسلامية، وعلى تخصيص فريق البحث، والتطوير، والدراسة، والتأمل، والابتكار، والاختراع، لأقوى أسلحة الزمان، وأعتى صواريخ الحْيْنَة، ولا يكتفون باستيرادها، ولا يحزمون أمرهم على شرائها، إنما لكل مورد شرطه، ولكنه لكل بائع بنده، ولربما راح هدف الاستيراد، ولربما خسرنا فلوسنا ودراهمنا، وتحت نير الشروط القاصمة، وحين تبلى الأسلحة، وإلا تستخدم هنا أو هنالك، أو ألا تعمل، وإلا بشرطه، وإلا عطلت برامجها، وحين كان ولا يزال أداؤها من بائعها مبرمجا! وإلى أن يعفو عليها زمنها، ولتصير بعد قليل لا جديدة، بل قديمة، ولا عاملة، بل خاملة هامدة، ولتباع في سوق النخاسات من بعد!

 

وهذا أمر مشاهد!

ولكن الذي نقف عنده هو ابتسامة القائد الأعلى للقوات المسلحة الإسلامية، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحين يكون القائد جلدا، وحين يكون الرائد صلبا، وحين يكون الهوينى، وأن كل شيء خلقه الله تعالى، وإنما خلقه بقدر، ومن حيث عمل السبب، ومن حيث الأخذ الموجب، وليهون على جنده، ولأن البسمة تبعث السرور والحبور، وسبب ملائم للتغلب على الأوضاع الصعبة، وهذا هدي نهتديه سلمنا وحربنا.

 

ولكي تبدو صحة عمل القائد، فقد كان من أمرهم تاليا، وأن اشتد وطيس حربهم، وحين رمت ثقيف سهامها، ولما ألقت هوازن نبالها، وحين طلبوا هم من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن نقفل غدا! وليرد ضحكة الأمس، بضحكة اليوم، ومع اختلاف بين ضحكتين سبقتا، وكل بحسبه، ولزمان الموقف، ولملائمة الحال، واقتضائه أيضا.

 

وفيه بعد نظر القائد، وكما أن في نبل المرؤوسين، وحين أدلوا وأن نعم، ولكنهم وعلى يقين، وألا يتزحزحوا أنملة، وإلا بأمر القائد، ولئن رأوا هم ما رأوا.

 

وهذا ما يميز الجندية الإسلامية، وهذا ما يميز كل جندية سديدة.



[1] شرح السنة، البغوي: 5/529، خلاصة حكم المحدث: حسن.

[2] صحيح أبي داود، الألباني: 3965.

[3] صحيح البخاري: 4324.

[4] صحيح البخاري :2554.

[5] صحيح مسلم: 2594.

[6] صحيح البخاري: 4325.



رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/151882/#ixzz7Gunw06UM