كلنا نقرأ عن حالات الانتحار التي تحدث بكثرة هذه الأيام , بمعدلات تفوق أي وقت مضى , منذ خمس سنوات بالضبط , حينما كنت أقرأ عن تلك الحوادث كنت استنكر كثيرا وأظل أتساءل كيف لإنسان أن يفرط بالروح التي خلقها الله , الروح التي
هي أغلى هبه , ألا يشفق الإنسان على نفسه؟ , كيف يصل لنقطة تنعدم فيها رغبته في الحياة , ببساطة هكذا يترك يده .
الحقيقة هي أن كل بريء بذنب لم يمتحن به , لا يهم كم رأيت وقرأت , طالما أنك لم تعش .. هم لا يتركوا الحياة ولا يستسلموا فقط يحاولون إيقاف الألم , عقلهم لا يستجيب لهم بشكل صحيح , يختفي نور العالم من حياتهم , يفترسهم الاكتئاب وهم في وسط الازدحام وضجيج الناس . أننا لا نستطيع أن نحيا في عوالم غيرنا ... لذلك لسنا مؤهلين لفهم ما يعيشون .
كنت أظن أن الاكتئاب هو أن تكون حزيناً , لديك مشكلة ما , لا تستطيع أن تمرح أو تمارس حياتك بشكل طبيعي , والحقيقة هي أبعد ما يكون عن هذا .. لذا نحن نستهين جميعاً بالاكتئاب , يطلق النكات ونمزح , في مرض من أخطر أمراض العصر الحديث , وسبب من الأسباب الرئيسية للوفيات في القرن الواحد والعشرين .
لأننا نجهل , لا نهتم , لا نعرف , ولا نقرأ , سيظل ناقوس الخطر موجود وستزيد حدته , الأمراض النفسية ليست كماليات , او رفاهيه , بل ضرورة قصوي .
منذ اربعه سنوات بدأت أتغير , كنت أستيقظ لأيام عديدة بإحساس بالفراغ رهيب يتملكني , كأنني لا اريد مواجهة اليوم التالي , لا أستطيع الإحساس بالسعادة لأي سبب كان , معظم اوقاتي اقضيها صامتة ووحيدة , وحيدة حتى وأنا محاطة بالجميع , فالوحدة شعور قبل كل شيء , تنتابني أحاسيس بفقدان الأمل .
لم أعرف ماذا يحدث حينها , أعتقد أن هذا الشيء عادي , فأنا لم أعد طفلة صغيرة , ربما هذا ما يصاحب كوننا أصبحنا من الكبار الآن .
لازمني هذا الشعور لمدة سنتين ثم تعرضت لأزمة صحية كبيرة , نسيت بها كل هذا , كنت أحارب فقط للبقاء على قيد الحياة حينها , وعندما استردت عافيتي بدأ ينمو شعور جديد بداخلي الا وهو الخوف الدائم , صاحبني لأشهر ثم اختفى .
بعد تلك الأحداث بفترة 6 أشهر أو ما شابه حدثت الكثير من الحوادث والمشكلات وحينها تطورت حالتي كثيرا , فلقد بدأت أفكاري تهاجمني , عندما أكون وحيدة , كنت أفكر فقط في كل الأشياء التي لم أنجح بها , مخاوفي المستقبلية , والشعور بالفشل والوحدة , كانت كل تلك الأصوات تتردد بداخلي رأسي على الدوام , لدرجة كنت اخاف فيها البقاء وحدي فأفكاري كانت تؤذيني كثيرا .
لأهرب منها كنت أشغل نفسي طوال الوقت , بأي شيء المهم أن لا أدع أي ثانية فراغ تتسرب الى يومي , حتى يأتي المساء فانهار من التعب و أغط في نوم عميق , بقيت على تلك الحالة 3 أشهر حتى بدأ ما كنت أهرب منه يهاجمني في أحلامي على شكل كوابيس سيئة .
لدرجة أنني كنت أكره أن أنام فكل ما كنت أعيشه في كوابيسي لم يكن سوى الخوف والألم , بعدها اضطررت للبقاء وحيدة فترة , لظروف دراستي , كنت بعيدة عن المنزل حينها , لكن حالتي ظلت كما هي الكوابيس والخوف , بعد فترة تحسنت حالتي قليلا , فاستطعت البقاء وحدي لأول مرة بعد حوالي 6 أشهر , الكوابيس كانت تزورني من حين لآخر كما أن هناك لحظات كنت اشعر فيها ان النور اختفى من العالم والظلام يحاوطني يخنقني , وأنا في غرفة مظلمة وحيدة وأصرخ طلبا للمساعدة ولكن بلا فائدة , لم يكن هناك من يشعر بي , حتي لو تكلمت مع أحد لم يفهمني , لم يعرف أي من حولي أن ما كنت امر به ليس حزنا بل أكبر من ذلك .
لكن عندما حدثت أحداث كورونا وأعقبها المزيد من الأحداث , كانت حالتي وصلت لأقصى درجة , الانفجار , عاودت الأفكار لمهاجمتي , الكوابيس , لكن أضف علي كل هذا انني كنت أستيقظ من نومي خائفة لا بل أكثر من الخوف , مرعوبة تعد كلمة أنسب , قضيت على هذه الحالة مدة شهرين , حتي جاء يوم توقف فيه عقلي عن الاستجابة لي , فلم أكن أستطيع التحكم بعقلي , عندما كنت اتكلم لم أشعر حينها بالكلمات وهي تخرج من فمي , فقدت القدرة على التفكير والتركيز , قدراتي العقلية اختلت , وأحسست بأن هذه هي النهاية , كنت أشعر بكل ذلك ولا أعرف ما الذي حدث لي , كيف لا يكون عقل الإنسان تحت تصرفه , ماذا أفعل , هل سأموت ؟ .
في تلك اللحظة بالذات ولحسن الحظ أنني طلبت المساعدة , ركضت إلى أسرتي وشرحت لهم ما أشعر به بالتفصيل , الحقيقة أنهم أخذوا كلامي بقدر كبير من الجدية , وفي نفس اللحظة هرعوا بي للطبيب حتى يعرفوا ما الذي يجري , كنا نعتقد أن المشكلة جسدية , حينما ذهبت للطبيب شرحت له كل شيء من البداية , كان في الحقيقة جيد للغاية معي , استمع لي وكان هادئ , وجهه يدعوني للاطمئنان , بعدما أنهيت كلامي , أخبرني ألا أخاف وأن الذي أمر به ليس مرض جسدي , بل عقلي .
أنا مريضة ومرضي يحمل إسماً له اسم (الاكتئاب ) , علي ألا أقلق , هناك علاج و أشفي منه , أخبرني أنني شجاعة وذكية في نفس الوقت , لأنني فهمت ما أمر به بشكل جيد للغاية وتوجهت لطلب المساعدة في وقت مبكر , وأن هناك العديد من الناس يعانون ولا يعرفون ذلك .
كنت سعيدة حينما سمعت ذلك , فكل تلك الأشياء ليست طبيعية وأن هذه ليست أنا , أنا مريضة , ومرضي له اسم وله علاج , كانت تلك اللحظة التي قررت بها ان أعرف كل ما أستطيع عن مرضي , قرأت الكثير والكثير من الكتب بحثت وتحريت , كنت أتعجب من الأشياء التي اكتشفتها , لقد عرفت أنني جاهلة كبيرة , وأن العالم يحتاج إلى محو أمية في الصحة النفسية .
الاكتئاب عدو خفي , أعراضه مثله , يهاجم في الظلام وعندما نكون وحدنا , ضحاياه كثيرة .
مما آسف عليه أن تكلفة العلاج النفسي مرتفعة للغاية , لا أعرف لماذا , أليس من الظلم أن نعيش متألمين لأننا لا نستطيع دفع ثمن تذكرة الطبيب ؟
الألم النفسي لا يقل أهمية عن أي ألم آخر , المرض النفسي خطير , هل نترك الناس فريسة له ؟