اخبرتني أمي انها تريد تضفير شعري لآخر مره قبل ذهابي , فلم اكن اعرف كيف افعل ذلك , دائما ما كانت تضفره لي , كانت تضفره وتنهمر اعيننا بالدموع , فلقد كنا نفترق مجبرين , كان يتحتم علي الذهاب , لم اختره , بل فرض علي .
قضيت اخر ليلة في بيتي وانا ابكي طوال لليل كمن يجهزونه لفقأ عينيه في الصباح , كان علينا المغادرة فجرا حتي نصل للمطار في الوقت المحدد لرحلتي , كنت اودع الجميع وانا ابكي عيوني دماً لا دموعا وأخبرتهم أنني ذاهبة مجبورة , أنا أهرب من الظلم , ذهب معي ابي واختي الصغيرة واخي الاصغر مني , بقي اصغر اخوتي بالمنزل , فلقد كان اكثرهم تعلقا بي فأنا اعتنيت به كثيرا منذ صغره , لم يستطيع تحمل وداعي .
حينما وصلنا للمطار اكتشفنا أن الطائرة خاطئة وان علي الذهاب لمطار مختلف آخر لذلك علي تغيير تذكرتي وشراء أخري , وفعلت , لكن مع الأسف الرحلة القادمة بعد 12 ساعة من الآن . أخبرني أبي أن ما زال هناك وقت كبير , دعينا نعود لبيتنا ونأتي مرة أخري , رفضت بشدة وأخبرته فليعودوا هم ويأتوا حينما يأتي موعد رحلتي لتوديعي , أما أنا سأبقي هنا بالمطار لن ابارح مكاني , لن اتحمل الوداع مرة أخري , ليس لدي القدرة علي ذلك , لن أفعل .
بعد جدال دام نصف ساعة , ذهب أخي وابي ولم تتركي اختي جواري أبدا ً , لم تفعل يوماً , بقينا في المطار نتحدث سويا , أخبرتها أنني لن أكون سعيدة في قبرص أبدا , لتعرف ذلك , وأنني إذا اتصلت بها من هناك عليها أن تتأكد من أنني لن أنسي ما حدث لي أبدا , وأنني مجبرة , جلسن كثيرا , كان الحزن في ذلك اليوم أكبر من قدرة قلوبنا علي تحمله حتي , فجاه بلا مقدمات هطلت أمطار غزيرة , أعتقد أنني لم أشاهد يوما ممطرا كذلك اليوم في مصر أبدا , كانت الأمطار تهطل وكانت دموعي تهطل بنفس الشدة , كنت أقف تحت المطر , أؤمن أن المطر يغسل ويطهر , ربما اعتقدت في ذلك اليوم أنه من الممكن أن يغسل أحزاني , وقفت أمام العلم المصري وكانت الرياح شديدة جدا , كان العلم يتحرك بشكل يشبه الأفلام , نظرت اليه وقلت : أقسم أنني لا أريد المغادرة , لكنني أهرب من الظلم , وأقسم أنني سأعود يوما لكن لن أعود نفس الشخص سأعود قوية , لن أسمح لأحد أن يظلمني أو يكسرني مرة أخري أبدا , وهذا وعد .
كانت هناك سيدة طيبة تقف وتودع ابن لها مغادرا ايضا , رأتني ابكي فركضت ناحيتي , لقد كانت حالتي في ذلك اليوم مزرية , مرة أخبرتني أحد صديقاتي أنني حينما أبكي أبكي بحرقة كبيرة , يستطيع معها من يراني أن يصله مدي ألمي , ربما أحست تلك السيدة بذلك , حضنتني وربتت علي كتفي , قرأت من أجلي القرآن وكانت أدعيتها لا تتوقف من أجلي , كنت أقول لنفسي : رق قلب غريب لي ولم يرق قلوب من عرفتهم , لقد كانت قلوبهم أقسي من الحجارة , فليسامحهم الله .
اخرجت من حقيبتها كيسا مليئا بالبلح الأحمر , كان جميلا مثلها , وأقسمت علي ان احتفظ به معي فمازال هناك الكثير علي وقت طائرتي . لأتناوله هنا . وافقت أمام إصرارها وودعتني وذهبت كان لسانها لم يزل يدعو لي .
جلست مع اختي نمنا قليلا علي مقعد المطار , لقد كان الجو ممطرا وباردا , كنا نرتجف , لكن اغمضنا اعيننا ربما علي أمل أن يكون كل هذا كابوسا سيئا ونستيقظ يوما ما .
استيقظنا وحان وقت الرحيل , قلت لها ان علي دخول صالة السفر , ولن يسعني انتظار لا والدي ولا اخي , سألتني أن كنت لن أودعها , كانت إجابتي بالرفض , لا أحب الوداع , دعيني اذهب هكذا ..بلا وداع .
كانت اعيننا تودع بعضها من خلال زجاج القاعة الشفاف , استمرينا بالنظر لبعضنا البعض ما امكننا ذلك , حتي عجزت عيوننا عن الرؤية .
وذهبت بأقدام ثقيلة , وقلب مجروح , كان هناك خوف بالتأكيد من مجهول لا أعرفه , لكن حزني كان أكبر من خوفي ,
غادرت كل شيء بلدي , اهلي , أرضي , لغتي , كل من أحب ومن لا أحب , غادرت حيواني الأليف , رحلت عن كل شيء ... بلا وداع