قضيت أكثر من نصف عام أهرب , وأتحاشى الجلوس بمفردي في مكان , فكرة وجودي وحدي مع أفكاري المؤذية كانت ترعبني , فكل ما يؤذيني لم يكن سوي أفكاري , أو بالأصح الأفكار التي زرعوها بداخلي , كل الأذى النفسي الذي كان محفور بداخل رأسي , عبارات التخويف , والسخرية , الفشل , وكل ما يؤذي الإنسان بدون أن يحاسب عليه القانون , الأذية النفسية , كبيرة للغاية ولا تقل عن الأذى الجسدي أبدا , بل في اعتقادي أنها أكبر منه , كان عقلي عبارة عن محفظة , حفظت كل كلمة وكل نظرة بوضوح شديد , فلقد كنت دوما دقيقة الملاحظة فيما يخص مشاعر الناس , وكان هذا أكثر ما يعذبني .
في يوم ما وجدتني أجلس وحدي لأول مرة , لقد قررت المواجهة , لا مزيد من الهرب , فلقد تعبت من الركض , والاختباء وسط الزحام , والمشي بالساعات حتى يتملكني الإرهاق فأنام , لن اهرب بعد الآن , فكل الأشياء التي كنت أهرب منها كانت تلاحقني في كوابيسي , كانت تؤذيني في أشد لحظات ضعف وعجز .
قلت لنفسي لابد أن أستدير واواجه , فلقد وصلت للنهاية , وكانت أول مرة تدور في عقلي كل تلك الأشياء المخيفة , والآراء الجارحة , الكلمات المؤذية , وأصعب ما مررت به , قلت لهم لا بأس , إذا كنت هكذا بكل هذا السوء فليكن , ليس باليد حيلة , إذا كان الأسوأ قادم والفشل مصيري , والوحدة قدري , فخوفي من كل هذا لن يغير شيء , فالمكتوب قد كتب قبل أن أولد حتى , وبعد جدال طويل مع افكاري وأسئلة كانت تنهش في عقلي وحوش ضارية تبحث دوما عن إجابة , توصلت انني لم أعد اريد سوي السلام النفسي , أنا قد أفلتت يدي من كل شيء , ليحدث ما يحدث , أنا راضية بنفس مطمئنة , كانت تلك الليلة صعبة كثيرا وغريبة , كانت الليلة الأولى التي اجلس فيها وحدي في مكان ما وقد توقفت عن الخوف , وهدات افكاري , كانت تلك الليلة كالسحر تماما , كمن دخلت في قدمه شظية من زجاج , وظلت تؤلمه وتمنعه من الحركة , وبقيت معه مدة طويلة , وأخيرا تم انتزاعها , وككل شيء لم ينتهي الألم ولم يتبخر الجرح , بل كان موجود , الأثر والجرح , وسيبقيان هنا حتي الممات , لكن على الأقل كنت أشعر بالراحة , كانت ليلة لا تصدق , كنت سعيدة بشكل غريب , أو لم اكن خائفة إذا صح التعبير , كنت في مكان بعيد , بعيد جدا , حتى أنني كنت بعيدة عن الأيدي التي طالما امتدت لي بالإيذاء , كنت في أمان إلى حد ما , كنت انظف جرحي , علي أمل أن أشفي يوما ما