قال أبو سفيان بن حرب: أما أحد يغتال محمدا فإنه يمشي في الأسواق فندرك ثأرنا؟ [1]. [ إمتاع الأسماع، المقريزي: ج ١٣/٢٨٢]. وما زال يوم بدر فاعلا فيه! برهان ضرورة عمل مثخن في الخصم لا ينساه!

إن يوم أحد لم يشف غيظ قريش؛ ولأنهم يعلمون أن شأفتهم قد كسرت، يوم بدر، وعلى نحو أذلهم، وأخفض رؤوسهم، ودك حصونهم: وأهبط منزلتهم في العرب! فيحاولون قتله صلى الله عليه وسلم.

وهذا إضافة إلى أن يوم أحد كان نصرا مؤزرا للمسلمين! وتعرف ذلك قريش تماما، لأن الذي حدث لا لضعف المؤمنين، وإنما فتنة مغنم، يمكن تداركها بعد، مما أثار قريشا، فحاولت قتله صلى الله عليه وسلم. ولأن مقياس الحروب ليست بكم ظفرت هذه المرة، وإنما معادلة وتصفيات لما قبله، ويوم أحد معه، وحينها لتجدن محصلة نصرا مؤزرا، ولا ثلم يوم أحد من ورائه من شيء!

وإذ قال أبو سفيان بن حرب: أما أحد يغتال محمدا فإنه يمشي في الأسواق فندرك ثأرنا؟ وهذا برهان أن القائد يظل هدفا ولتحسب القيادة لذلك حسابها حمايته.

وهو أيضا برهان أنه صلى الله عليه وسلم مانعه ربه، ولأنه يمشي في الأسواق، رغم علمه هدفا لخصمه. وإنما لا يمنع هذا حرسا يتخذه القائد لحمايته، وأخذا بالسبب.

قال أبو سفيان بن حرب: أما أحد يغتال محمدا فإنه يمشي في الأسواق فندرك ثأرنا؟ وهذا برهان تواضعه صلى الله عليه وسلم، وحين يمشي في الأسواق، وليعيش أحاسيس رعيته صلى الله عليه وسلم.

وإن قرب القائد من رعيته يتحسس حالهم ويتعسس أمرهم مطلب قيادي هام، وإن قرب القائد من رعيته يجعله واقفا بنفسه على أحوالهم ودون وسائط، وقد تصيب أو قد تخطئ. وإن اعتماد القائد على التقارير قد لا يفي بإيصال حقيقة أمر الرعية أليه، فيكون قراره حيالها مشوبا معيبا!

وإذ كثيرا ما تحصل الهوة بين القائد ورعيته من تيكم وسائط قد لا تحسن أو تغش. ومنه فقد كان حريا أن يجعل القائد من وقته سعة يتعسس رعيته بنفسه، فذاك يزيد قراره صوابا وحسنا.

اطوِ أمرك فإني لا آمن أن يسمع هذا أحد فينميه إلى محمد [2].[البداية والنهاية ، ابن كثير: ج ٤/٧٩]. وإن هذا ما نم عن جهل أبي سفيان بشأن السماء، وأن الله يدافع عن الذين آمنوا، فما باله بنبيهم صلى الله عليه وسلم.

وقد غاب عن أبي سفيان أيضا أن الله تعالى يسمع سرهم ونجواهم، وأن الله علام الغيوب، وأنه تعالى مانع نبيه صلى الله عليه وسلم.

حين رأى نبينا صلى الله عليه وسلم أعرابيا أرسله أبو سفان لقتله قال :إن هذا الرجل يريد غدرا والله حائل بينه وبين ما يريده[3].[ السيرة النبوية، ابن كثير: ج ٣ / ١٣٥]. وهذا علم نبوة، فوق أنه يقين نبي بربه سبحانه، وكما قال تعالى ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة:67].

حين صدق أعرابي نبينا صلى الله عليه وسلم بما أخبره ربه! وأنه جاء لقتله نيابة عن أبي سفيان، وأنجاه صدقه، ولأن الصدق منجاة، وأن الكذب مهلكة، وأنه تعالى مانع نبيه صلى الله عليه وسلم.

وحين صدق الأعرابي، ولما رأى صدق النبوة، كفلق الصباح، وبعد فجأته، أن الله أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم، أسلم وجهه لله، وليبقى أبو سفيان حبيس كفره، إلا أن يتوب.

وإذ كان من نبينا صلى الله عليه وسلم أنه أمر عمرو بن أمية الضمري، وسلمة بن أسلم بن حريش أن يقتلا أبا سفيان ابن حرب غرة، ولكفره، ولأنه أرسل من قبل أعرابيا لقتله صلى الله عليه وسلم.

وإذ تسلل عمرو بن أمية وصاحبه سلمة بن حريش إلى مكة، إلا أنه قد انكشف أمرهما، وتبعتهما قريش حتى أمكنهما منها هربا، فاضطرا إلى غار، وإذ بعثمان بن مالك بن عبيد التيمي يختلي لفرسه حشيشا، فقتله عمرو، ولأنه سوف يسمع بهما قريشا، وحينها قال أبو سفيان: قد علمنا أنه لم يأت لخير! [4]. [ السيرة النبوية، ابن كثير: ج ٣/١٣٧].

وإذ قتل عمرو بن أمية عثمان بن مالك، وحيث كان يعلف فرسه، خشية معرفته به، فيخبر قريشا، وفيه جواز قتل من يخشى شره، ودرء بطشه، وأنه لا شك فاعل.

وإذ قد تتبعت قريش عمروا، ليدخل غارا آخر، وإذ يدخل عليه أحدهم الذي قال:

فلست بمسلم ما دمت حيا * ولست أدين دين المسلمينا: ولأن هذا إصرار على الكفر، ولذا قتل عمرو ابن أمية الضمري قائله شر قتلة قتلها أحد من قبل!

وإذ كان من أسباب سرية عمرو الضمري عزم أبي سفيان قتل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن عمروا أبلى بلاء حسنا آخر، وأثناء سيره أداء لمهمته الأم، برهان جأش ثابت، وعمل فريد.

وإذ تصرف عمرو بن أمية الضمري كثيرا، وموسعا صلاحياته، لا تعديا وإنما لما يفرضه واقع الحال، وحين قتل هذا وهذا وهذا، وحين حمل خبيبا، وهذا برهان ضرورة إعطاء الجند صلاحيات، حسب موقفهم الميداني فيتصرفون من خلال ما تبدى أمامهم، أو ما يرونه من خلفهم.

وإن قائدا ماهرا هو ذاك الذي يمنح لمرؤوسيه صلاحيات إعمال النص، فتكون بمثابة لائحة تنفيذية ضافية، يمليها الميدان، وقد تغيب عن مخيلته وباله، وحين إصدار القرار. فلا تفوت مصلحة، ولا ترتكب مفسدة، وهذا ديننا، وإذ كان من أمره أنه إنما جاء لتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها.

وإنه وإن كان صحيحا وأنه لم تنجح خطة عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم في قتل أبي سفيان، لانكشاف أمرهما، لكنه رجع برصيد ثمين، وحين قتل ثلاثة وأسر واحدا وأهبط خبيبا.