قال الله تعالى﴿ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: 143].

ملخص القول : إن نبي الله تعالى موسى عليه السلام إنما قد سأل ربه رؤيته في الدنيا اشتياقا إليه تعالى، ولا يقدح ذلك في علمه بقصر ذلك على الآخرة.

وإنما سأل نبي الله موسى عليه السلام الرؤية لذات نفسه، وليس لقومه معه، وذلك لأن نظم الآية الكريمة ليستبعد ماعداه عليه السلام، وينصرف إليه وحده، وذلك بعد نظر أولي لنظم النص، وإنه إذ يؤيد ذلك، كما قال تعالى ﴿ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾. وذلك بدلالة ضمير المتكلم - المفرد - البارز المتصل المحذوف في قوله(رَبِّ)، وكذلك ضمير المتكلم - المفرد - البارز المتصل في قوله(أَرِنِي)، وضمير المتكلم – المفرد – المستتر وجوبا في قوله(أَنظُرْ). ولو أنه كان مقصودا به قومه معه لم يكن ليخلو النظم منه، ولكان الله تعالى ربنا الرحمن قد أوقفنا عليه توفيقا وإرشادا وبيانا.

بيد أن سماع التكليم من الرب الرؤوف الرحيم قد أوجد في نفس نبيه موسى عليه السلام اشتياقا إضافيا، وهو أمر غاية في البداهة، وذلك أن التفاعل الكلي الذي قد تمخض عن ذلكم تكليم بين الرب الرحيم العزيز القدير الجبار المتكبر، وبين عبده ونبيه وصفيه موسى عليه السلام، إنما كان من إلفه ذلكم الطلب، وإنما كان من شأنه ذلكم السؤال، وقد كان من ناتج ذلك التفاعل أن أخرجه على هيئة نداء ضافٍ بالعبودية، وبلفظ الربوبية الحاني أيضا حين ﴿ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ (إِلَيْكَ) ﴾.

وهو طلب رؤية من عبد أن يتجلى له ربه الرحمن سبحانه، وقد كان من تعليله أنه يريد أن ينظر إليه! وللتقريب فإن ذلك أمر فطري جرت به العوائد؛ إذ من كان ذا مَنٍّ فإنما تتشوف العيون إلى رؤيته، وإذ من كان ذا فضل فإنما تتوق النفوس إلى معرفته، ولا يتسنى لها ذلك إلا من قرب، ولا يتأتى لها ذلك إلا عن ملاقاة! ولله المثل الأعلى - سبحانه -.

ولا علاقة لذلك بكون أن الأنبياء يعلمون ما هو واجب أو جائز أو ممتنع     على الله تعالى، وذلك لأنه أصل ثابت لديهم، ذلك لأنه وكما قلت أنفا فإن ذلك أمر فطري جبلت عليه النفوس أن تتشوق إلى رؤية ذي منحة، وأنها كذلكم إذ ترنو إلى مكاشفة ذي منةٍ. وكلنا ذلك النفر الذي يعلم أن الله تعالى  إنما لايرى إلا في الآخرة، ولكنه مع ذلك تهفو نفسه إلى رؤيته تعالى، وليس يؤثر ذلك في أصل اعتقاده في ذلكم الأمر.

وهكذا نقف خاشعين مخبتين عند هذا القول الكريم، من عبد كريم، لرب كريم، أنه يريد أن ينظر إليه، وليكتب التاريخ أن أفرادا كان لهم مع ربهم الرحمن ذلكم الشأن العلي السامق، حتى نالوا به أسمى الدرجات وأرفعها وأعلاها، وساما على صدورهم، وتاجا على رؤوسهم، أن﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا﴾[النساء:164]. وكأنما هم يحكون بلسان حالهم أنه ما كان اصطفاء إلا من موجب كاف، و أنه ما كان اجتباء إلا من سبب مقنع واف! وموجبه أنه كان نبيا، وسببه أنه كان رسولا، ذلك لأنه ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾[الأنعام:124].

وهذا الاشتياق الإضافي البدهي الطبعي لرؤيته تعالى، وإذ كان من سببه على ما ذكر الإمام الطبري رحمه الله تعالى عن الربيع, في قوله: ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم: 52]، قال: حدثني من لقي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرّبه الربّ حتى سمع صَرِيف القلم, فقال عند ذلك من الشوق إليه: ﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ﴾[1].

وليس في الوسع موافقة قول من قال: إن المقصود بهذه الرؤية هو نوره تعالى، أو على أنه أراد: أرني آية عظيمة لأنظر إلى قدرتك; وذلك لأنه صرف للنظم عن ظاهره، وهو باد لك كيفما يكون بدو، وهو ظاهر أمامك أيَّا مَّا يكون ظهور، ولأنه قال ﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾، و كان جوابه تعالى ﴿ قَالَ لَن تَرَانِي ﴾ ، إذ إنه لو كان قد سأل الله تعالى آية لأعطاه الله سؤله ، كما هو عهده به سبحانه، حين ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ ﴾ [طه:36]. 

فسؤال نبي الله موسى عليه السلام رؤيته تعالى إنما هو طلبٌ على الحقيقة، وهو ما يتفق وسياق الآية محل البيان. ولذا كان الجواب الرباني الحاني على عبد ذي لهفة إلى رؤية ربه الكريم ذي الجلال سبحانه، وهو إذ يأخذه شوقه، وإنه إذ يكتنفه ولهه، وليس في المعاني ما يهدئ من ذلكم وَجْدٍ، أو يخفف من ذلكم وَلَهٍ، سوى أنه يريد أن يكشف الله تعالى له الحجب، وغير أن يتجلى له ربه الرحمن عيانا ظاهرا!، وإذ كان ذلكم غير ممكن وقوعه في دار الدنيا، وإذ كان يمكن أن يقف الجواب الرباني الكريم عند قوله تعالى﴿ قَالَ لَن تَرَانِي ﴾ ، ولكنه لما كان الرب الرحيم يعلمنا أدبا في كلامنا، وإذ لما كان ربنا الرحمن سبحانه يدلنا لطفا في حديثنا، ورفقا في بياننا، فكان منه قوله تعالى ﴿ وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ﴾ تذييلا وتعليلا وتقريبا وإقناعا حانيا.

ولكنه ولما كان ذلكم غير مقدر في الدنيا، ومنه كان ذلكم النداء الرباني العملي الرضي للنظر إلى الجبل، وما أتى بعدها! ومنه أيضا كان تأويل أهل البيان عن الله تعالى لذلك أنه ليس إحالة الرؤيا، كيما لاتفهم هكذا، وإنما على أن تلكم الإحالة مقطوع بها في الدنيا وحسب. بدليل ما جاء نظما محكما منه تعالى بإثبات رؤيته تعالى في الآخرة لأصحاب الجنة إكراما وجزاء ونعمة وفضلا منه تعالى، وحق لعبد أن ينال شرف النظر إلى مولاه، وإذ هو يتجلى لعُبَيْدِه في مشهد مهيب، ليس في قدرة البلغاء وصفه، وخارج عن بلاغة الأدباء نعته، وإذ ليس لنا إلا أن نخر له ساجدين مخبتين خضعانا وخشعانا! 

و﴿ لَنْ تَرَانِي ﴾ إذ كتب الله تعالى ألا يراه أحد في الدنيا، وحسبنا ذلك، بلا تعليل؛ كعدم قدرة عبد على تحمل النظر إلى وجه ربه الرحمن سبحانه، أو لعدم ثباته عند ذلك ونحوه، ذلك لأنه تعالى إذ لو أنه كان قد كتب في قضائه إمكان تجليه في الدنيا، لخلق ما به يستطيع عبد قد تشرف بذلكم فضل، ولمَّا  قد رأى ربه الرحمن سبحانه، وهو إذ يتملى ذاتا عز جلالها، وهو إذ يري نفسا جل جاهها !

وأما في الآخرة فقد ثبت في محكم آي الكتاب المجيد والأحاديث الصحيحة أن المؤمنين يرون ربهم في روضات الجنات. ومنه فلا داعي لقول إنهم منشؤون تنشئة تجعلهم يستطيعون معها رؤية اللّه تعالى. فذلكم كله ليس يزيد معنى آخر إضافيا، إذ كان يمكن أن يخلق الله فيهم ما به يقدرون على رؤيته في الدنيا، لو أنه سبحانه أراد ذلك. ولكنه لما كان الأمر محصورا في أهل الجنات، فحسبنا أن نقف عنده، وفيه غنية والحمد لله رب العالمين. على أنه تعالى جائز الرؤية، وذلك لأنه تعالى لو كان محال هذه الرؤية لقال: لا أُرَىْ.

قال الله تعالى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾[ القيامة: 22، 23]. وقال تعالى إخبارا عن الكفار: ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: 15 ].

وأخرج الإمام مسلم رحمه الله تعالى عَنْ صُهَيْبٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ ، قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا ؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ ؟ قَالَ : فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَزَادَ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }"[2].      

وقوله تعالى﴿ لَنْ تَرانِي﴾ من قبيل الاستئناف البياني، إذ لما سأل نبي الله موسى عليه السلام ربه سبحانه الرؤية، فكأن قولا محذوفا دل عليه السياق مقتضاه: بم رد الله تعالى على سؤال نبيه حين سأله؟ ومنه كان جوابه تعالى﴿ قالَ لَنْ تَرانِي﴾.

هذا؛ ولعل مبحثا ذا صلة بمسألة جواز رؤيته تعالى على قول أهل السنة في الآخرة، أو عدمها على قول المعتزلة.

إذ إن منشأ الخلاف من جهة النظر إلى حرف النصب(لن) الوارد في قوله تعالى ﴿لَنْ تَرانِي﴾، وعما إذا كان المعني به النفي في المستقبل مع النصب، أو تأكيد ذلكم النفي المستقبلي، أو تأبيده، أو تأكيده وتأبيده معا. أو" أن (لن) لتأكيد نفى ما وقع السؤال عنه، والسؤال إنما وقع عن تحصيل الرؤية في الحال فكان قوله: لَنْ تَرَانِي نفيا لذلك المطلوب، فأما أن يفيد النفي الدائم فلا "[3].

وعبارة العماد ابن كثير رحمه الله تعالى تعتبر توفيقا ملائما في هذا الباب، وذلك على الرغم من أن أخذها على ظاهرها ينحو بها نحوا آخر، ولعله تصحيف على ما قيل. حيث قال" وقيل : إنها لنفي التأبيد في الدنيا ، جمعا بين هذه الآية ، وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة "[4]. ومن حيث وُجِّهَ أنها للنفي وللتأبيد في الدنيا ، وهو جمع حسن بين نظم الآية ، وبين ما سبق من دليل الرؤية في الدار الآخرة.  

ومنه فيحمل تأبيد عدم الرؤية على أنه في الدنيا. وليس يحمل على أنه أراد آية عظيمة لإمكان النظر إلى قدرته تعالى ; ذلك لأنه قال (إليك)، ومن ثم كان رده تعالى ﴿لَنْ تَرانِي﴾، وينضاف إليه أن نبي الله تعالى موسى عليه السلام كعبد من عبيده تعالى، وإذ يجري في حقهم ذلكم التنزيل الكريم، والذي كان من نصه﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة:186]. ، فضلا عن أن يكون نبيا رسولا، وكمثل سائر أنبيائه تعالى، وفضلا عن أن يكون موسى خاصة، لمواقفه المعهودة مع ربه الرحمن سبحانه، ولما قد أجابه ربه فيما سأله أو طلبه أو دعاه، ودلك عليه قوله تعالى ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَٰمُوسَىٰ ﴾[طه:36].كما سبق بيانه.

ونفي الله تعالى رؤية نبي الله موسى عليه السلام ربه هو نفي إيجابي، بمعنى أنه  ليس له عليه السلام من بعده طلب أو سؤال، أو مراجعته لخالقه سبحانه، إذ قد تكوَّن في خلده أن ذلكم طلبا غير ممكن إجابته فيه.

بقيت مسألة قوامها قول قوم: إن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد رأى ربه تعالى ليلة الإسراء والمعراج، وهو قول ضعيف، يرده حديث الإمام مسلم رحمه الله تعالى حيث قال "حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ قَالَ نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ"[5].

[1][تفسير الطبري، الطبري: (13/91)].

[2][صحيح مسلم، كِتَابُ الْإِيمَانَ، بَابُ إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ رَبَّهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، حديث رقم: 298].

[3][التفسير الكبير، الفخر الرازي : ج١٤/ 357 ].

[4][تفسير ابن كثير ج2/276].

[5][صحيح مسلم، حديث رقم: 261].