وإذ بنفر يفرحون بالحياة الدنيا، وإذ بالقرآن العظيم يهون من فرحهم بأن الحياة الدنيا كلها في الآخرة كلها إلا متاع!
وذلكم كيما توزن الأمور باعتبار، وكيما لاتروح النفوس متعلقة بزوال. إنما ليبقى لها من رصيد يكون زادا إلى الفرح الحقيقي، وهو الفرح بما عنده تعالى يوم أن يفرح الإنسان بعبادة مولاه ليجد لذلكم حظا من اللذة وذلكم فقط هو الذي يمكن أن نسميه فرحا.
وفرح غير رضا. فالفرح انبساط يتبعه عمل متمثل في حركة باعثة على التعبير كونه فرحا قد أوتي من ثماره، والرضا انبساط يتبعه سكون ليشي بكون صاحبه قد اطمأن .
وفرح عكسه حزن. إذ الفرح يكون لنيل مطلوب، أو زوال مرهوب. أما الحزن فيكون واقعا إذا فات مرغوب. أوحل مرهوب. والعقلاء يعرفون أن أطيب مطلوب هو عبادته تعالى بحق، كما أنهم يوقنون أن حزنهم إنما كان واقعا يوم أن تمر على امرئ لحظة - ولو كانت واحدة - وقلبه فيها لاه عن ذكره مولاه!
بيد أن فرحا يتملك الإنسان ليخرجه عن طوق الإتزان ليدخل صاحبه في شر وبطر هو ما نأت عنه شريعة الرحمن. ومنه قوله تعالى({لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}.[الحديد:٢3] وذلكم أيضا كيما يكون الإنسان متزنا حال فرحه, وهو متزن أيضا حال حزنه. إذ الخروج بأحد الضدين عن حالة الإتزان لمؤذن بما ليست عاقبته حميدة. بل ربما تأكد في حقه الهلاك ليلقى بذلكم حتفه بنفسه لخروجه عن حد الاتزان في الحالين.
وآفة فرح ذلكم هو فرح من كفر. إذ على أي شيئ يفرح وهو قد كفر! لكنها النفوس غير السوية لما أن ترى الباطل حقا! أو أن يزين لها الشيطان عملها فترى الحق باطلا! ألم تر أن الله تعالى قال(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ)[النمل:24].والحال أنهم قد صدهم الشيطان عن سبيل الهدى وسلوك المهتدين. ومنه يحذر الإنسان على نفسه ألا يغتر بما قد أوتيه من شئ أي شئ. ومنه أيضا لزم على ذلكم الإنسان أن يحتاط فلا يبتدع، ووجب عليه أن يركن إلى الشرع وحده كيما يكون في مأمن من خروج عن حالة الإتزان فيهلك، وها هو تراه ناصبا لنفسه هامة فرح كَذِبٍ، وهو ليس من الفرح الحق بشئ. ألم تر أن الله تعالى قد نصب لواء النعي على أولاء نفر قد فرحوا يوم أن فرقوا دينهم وكانوا شيعا، ثم هم أولئك تراهم فرحين بذلكم تفريق، وهم كذلكم فرحون يوم أن كانوا شيعا وأحزابا ومنابر؟! كما قال تعالى(مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)[الروم:32].
لكن الله تعالى أمر بالفرح. وأمره تعالى به ليستقيم مع ما فطر عليه خلقه كيما يكون هنالك اتساق بين أصل الفطرة، وأنها لزم لها أن تفرح! فأفرحها ربها بل وأمرها أن تفرح ! لكنه متى؟ ليكون الجواب هو ما نصت علية الآية من فرح بفضله تعالى يوم أن ساد نور الإيمان في القلوب، ويوم أن انمحت عن الأفئدة ظلمات الباطل والغي والظلم والبهتان، وكل ما من شأنه أن يعكر صفو قلب قد اتصل بمولاه، عارفا فضل ربه، موقنا بحقه تعالى عليه يوم أن اتخذه وحده إلهه ومعبوده دون ما سواه. وهنا - وفقط هنا - تتنزل عليه رحمات الرحمن فلا خوف عليه ولاحزن ليأتي أمره تعالى (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون) [ يونس : 58].
بيد أنه يمكن أن يأتي الفرح بمعنى أعلى منه درجة. ذلك لأن صاحبه قد تبوأ منزلة هو كان أحرى به أن ينال ذلكم الفضل من فرح جاء التعبير عنه بلفظ الحبور، وهو ما يشي بأن فرحا قد نبع فرحا آخر يماثله حتى امتزج الفرحان ليثمرا فرحا مركبا كُنِّيَ عنه بلفظ الحبور، وفي صيغة المضارعة الدالة على استمراره بلا انقطاع ليؤدي بذلكم معنى السعادة في أكمل معانيها! كما في قوله تعلى(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)[الزخرف : 7]. ومنه أيضا ذلكم الإتحاف الرباني وذلكم الفوز الكريم من لدنه تعالى يوم أن أدخلهم ربهم جناته، ويوم أن أفاض عليهم من فيوضاته، حتى كانوا بعملهم الصالح في روضات الجنات لهم فيها ما يشاؤن فضلا منه تعالى ورحمة، فهم فيها يسرون بأتم معني يمكن أن يكون عليه السرور، وحتى وكأني أراهم قد سعدوا بأكمل ما يمكن أن يرد عليه لفظ السعادة، وكأن الوجود كله فرح لفرحهم، وحتى ولكأن الكون كله قد سعد بسعادتهم لأنهم نالوا الفضل كله ولأنهم قد بلغوا المنزلة في مجدها السامق وسلمها الأسمى. ألم تر أن الله تعالى قال(فأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ)[الروم: 15]. وأيضا قوله تعالى(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)[هود: 108].