أمر الله تعالى القارئ بالاستعاذة، قبل القراءة، لقوله تعالى ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل:98]. وظاهره قد يُفهم أن الاستعاذة إنما تكون بعد القراءة، وقد نقل عن جماعة من أهل العلم، ونُقل عن حمزة من القُراء[1].[تفسير ابن كثير (1/110)] ، وتوجيهه أن الاستعاذة  بعد القراءة تكون دافعة للعُجب، حين استشعار القارئ أنه قد قام بعمل صالح، فهذه الاستعاذة تدفع عنه العُجب، وتبقى معه ثمرة القراءة.

وقد حكى الإجماع على ذلك أنها قبل القراءة جمع من أهل العلم كالإمام مكي بن أبي طالب[32]، وخاتمة المُقرئين ابن الجزري[33]، قالوا: إن هذا بالإجماع، وضعفوا ما نُقل عن هؤلاء من السلف وغيرهم، وأن ذلك لا يثبت عن أحد منهم، ولا يصح عنهم شيء من ذلك. سواء ابتدأ أول سورة، أو جزء سورة، على الندب.

وحمل قوله تعالى ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل:98].على أن المطلوب أن يستعيذ بعد القراءة، فإنما هو نظير ما جاء في قوله تبارك وتعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا﴾ [المائدة:6]، يعني: أردتم القيام فالوضوء يكون قبل الصلاة، فكذلك إذا أردتم قراءة القُرآن إذا أردت القراءة؛ فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وكما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾ [الأنعام:152]، يعني: إذا أردتم القول، وكقوله: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]، يعني: إذا أردتم سؤالهن فسألوهن من وراء حِجاب، وكقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ [المجادلة:12]، يعني: إذا أردتم المُناجاة، وليست الصدقة بعد المُناجاة؛ لأنه كان المقصود بهذه الصدقة كما هو معلوم التخفيف عن رسول الله ﷺ من كثرة النجوى.

فأوقع الماضي يعني: فَإِذَا قَرَأْتَ أوقع الماضي مكان المُستقبل، وقد دلت السنة على أن الاستعاذة قبل القراءة، لحديث أبي سعيد الخدري "كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إذا قامَ مِنَ اللَّيلِ كبَّرَ ثمَّ يقولُ: سُبحانَكَ اللَّهمَّ وبِحمدِكَ، وتبارَكَ اسمُكَ، وتعالى جدُّكَ ولا إلَهَ غيرُكَ، ثمَّ يقولُ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ثلاثًا ثمَّ يقولُ: اللَّهُ أَكْبرُ كبيرًا ثلاثًا أعوذُ باللَّهِ السَّميعِ العَليمِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ مِن هَمزِهِ، ونَفخِهِ ونَفثِهِ ثُمَّ يقرأُ"()[ نخب الافكار، العيني، الصفحة أو الرقم: 3/520]. وقال عنه العيني: صحيح.

وهذا أنها تكون بعد القراءة، قول لا يعول عليه، وقد نص بعض أهل العلم على شذوذه، وإنما المقصود أن تكون الاستعاذة قبل القراءة من أجل أن القارئ بحاجة إلى ذلك؛ ليدفع عنه خواطر الشيطان يدفع وسواسه، ليتهيأ للقراءة، ليتطهر لسانه، كما قد تطهر قبل ذلك بالوضوء، فيجمع بين الطهارتين، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج:52]، وقد فُسر ذلك بالقراءة، يعني: في قراءته، والمخرج من ذلك بالاعتصام بالله تبارك وتعالى من الشيطان، فلا يُفسد عليه قراءته، ولا يُلقي في قلبه الخواطر والوساوس، فيكون القلب محلًا صالحًا للقرآن، وينتفع به .

 فتحصل مما سبق أن مَحَلِّ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الْقِرَاءَةِ على ثَلَاثَةُ أقوال :

1- أَنَّهَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ , وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ , وَذَكَرَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ , وَنَفَى صِحَّةَ الْقَوْلِ بِخِلَافِهِ .وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِـحديث أبي سعيد الخدري السابق الذكر وكذلك بحديث نَافِعٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ [ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ] . وقد دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيمَ هُوَ السُّنَّةُ .وأن اَلَّذِينَ نَقَلُوا صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام ذَكَرُوا تَعَوُّذَهُ بَعْدَ الِافْتِتَاحِ قَبْلَ الْقِرَاءَة ِ .

2- قال ابن العربي : قال أبو بكر بن العربي: " انتهى العي بقوم إلى أن قالوا: إذا فرغ القارئ من قراءة القرآن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ". وقد روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة، وهذا نص. فإن قيل: فما الفائدة في الاستعاذة من الشيطان الرجيم وقت القراءة؟ قلنا: فائدتها امتثال الأمر، ليس للشرعيات فائدة إلا القيام بحق الوفاء لها في امتثالها أمرا أو اجتنابها نهيا، وقد قيل: فائدتها امتثال الأمر بالاستعاذة من وسوسة الشيطان عند القراءة، كما قال تعالى: " ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج:52] ".[ تفسير القرطبي - القرطبي - ج ١ - الصفحة ٨٨].

وقال ابن العربي أيضا: " ومن أغرب ما وجدناه قول مالك في المجموعة في تفسير هذه الآية: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل:98].قال: ذلك بعد قراءة أم القرآن لمن قرأ في الصلاة، وهذا قول لم يرد به أثر، ولا يعضده نظر، فإن كان هذا كما قال بعض الناس: إن الاستعاذة بعد القراءة كان تخصيص ذلك بقراءة أم القرآن في الصلاة دعوى عريضة، ولا تشبه أصل مالك ولا فهمه، فالله أعلم بسر هذه الرواية".[ تفسير القرطبي - القرطبي - ج ١ - الصفحة ٨٨].

قال القرطبي رحمه الله تعالى : " أي إذا أردت أن تقرأ ؛ فأوقَعَ الماضي موقع المستقبل ، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، وأن كل فعلين تقاربا في المعنى جاز تقديم أيهما شئت؛ كما قال تعالى: ﴿   ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ ﴾ (النجم: 8) المعنى فتدلى ثم دنا؛ ومثله: ﴿ ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ ﴾ (القمر: 1) وهو كثير " [الجامع لأحكام القرآن، القرطبي: 1/153].

الحكمة من الأمر بالاستعاذة قبل القراءة :

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : " إن الاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بأن المأتي به بعدها القرآن، ولهذا لم تشرع الاستعاذة بين يدي كلام غيره، بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة، فإذا سمع السامع الاستعاذة استعد لاستماع كلام الله تعالى " [إغاثة اللهفان 1/94].

وقال رحمه الله تعالى أيضا " إن الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورجله حتى يشغله عن المقصود بالقرآن وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن فلا يكمل انتفاع القارئ به فأمر عند الشروع أن يستعيذ بالله عز وجل منه . ومنها : أن القارئ يناجي الله تعالى بكلامه والله تعالى أشد أذنا للقارئ الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته والشيطان إنما قراءته الشعر والغناء فأمر القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاة الله تعالى واستماع الرب قراءته . ومنها : أن الله سبحانه أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته والسلف كلهم على أن المعنى إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته قال الشاعر في عثمان :

تمنى كتاب الله أول ليله *** وآخره لاقى حمام المقادر.

فإذا كان هذا فعله مع الرسل عليهم السلام فكيف بغيرهم ولهذا يغلط القارئ تارة ويخلط عليه القراءة ويشوشها عليه فيخبط عليه لسانه أو يشوش عليه ذهنه وقلبه فإذا حضر عند القراءة لم يعدم منه القارئ هذا أو هذا وربما جمعهما له فكان من أهم الأمور الاستعاذة بالله تعالى منه " [إغاثة اللهفان 1/93].

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : " الاستعاذة ليست بقرآن ولم تكتب في المصاحف وإنما فيه الأمر بالاستعاذة وهذا قرآن " [الفتاوى، ابن تيمية 22/351].

". قَالَ الجصاص: قوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} يقتضي ظاهره أن تكون الاستعاذة بعد القراءة، كقوله: {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا} [النساء:103] ولكنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف الذين ذكرناهم الاستعاذة قبل القراءة. وقد جرت العادة بإطلاق مثله. والمراد إذا أردت ذلك كقوله تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا} [الأنعام:152] وقوله: {وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب} [الأحزاب:53] وليس المراد أن تسألها من وراء حجاب بعد سؤال متقدم، وكقوله تعالى: {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} [المجادلة:12] وكذلك قوله {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} معناه: إذا قرأت فقدم الاستعاذة قبل القراءة، وحقيقة معناه: إذا أردت القراءة فاستعذ، وكقول القائل: إذا قلت فاصدق وإذا أحرمت فاغتسل يعني قبل الإحرام، والمعنى في جميع ذلك إذا أردت ذلك"().[ كتاب أحكام القرآن، للجصاص، ط العلمية:ج3/248].

وقال رحمه الله تعالى في موضع آخر: كذلك قوله: {فإذا قرأت القرآن} معناه: إذا أردت قراءته وقال تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) [النحل:98]، معناه: إذا أردت قراءته،[ أحكام القرآن - الجصاص - ج ١ - الصفحة ٤٨١].

3- أن الِاسْتِعَاذَةُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَبَعْدَهَا , ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ ، وَنَفَى ابْنُ الْجَزَرِيِّ الصِّحَّةَ عَمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ أَيْضًا .