وهذه الآية تدل على أنه سبحانه يجوز أن يُرَى، وتقريره أن نبي الله موسى عليه السلام سأل ربه الرؤية، وذلك لأن الأصل في الأنبياء خصوصا أن يكونوا عالمين بما يجب وبما يجوز وبما يمتنع على الله تعالى، وعليه فإنه لو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها نبيه موسى عليه السلام، ولما قد سألها؛ فدل على أن الرؤية جائزة على الله تعالى ، وذلك لأنه تعالى لو كان مستحيل الرؤية لقال: لا أُرَى.
وإنما سأل نبي الله موسى عليه السلام الرؤية لذات نفسه، وليس لقومه معه. وإنما كان ذلك كذلك، لأن نظم الآية الكريمة ليستبعد ماعداه عليه السلام، وينصرف إليه وحده، وذلك بعد نظر أولي لنظم النص، وإنه إذ يؤيد ذلك، كما قال تعالى ﴿ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾. وذلك بدلالة ضمير المتكلم البارز المتصل المحذوف في قوله(رَبِّ)، وكذلك ضمير المتكلم البارز المتصل في قوله(أَرِنِي)، وضمير المتكلم المستتر في قوله(أَنظُرْ). ولو أنه كان مقصودا به قومه معه لم يكن ليخلو النظم منه، ولكان الله تعالى ربنا الرحمن قد أوقفنا عليه توفيقا وإرشادا وبيانا.
بيد أن سماع التكليم من الرب الرؤوف الرحيم قد أوجد في نفس نبيه موسى عليه السلام اشتياقا إضافيا، وهو أمر بدهي غاية في البداهة، وذلك أن التفاعل الكلي الذي قد تمخض عن ذلكم تكليم بين الرب الرحيم العزيز القدير الجبار المتكبر، وبين عبده موسى عليه السلام، إنما كان من إلفه ذلكم الطلب، وإنما كان من شأنه ذلكم السؤال، وقد كان من ناتج ذلك التفاعل أن أخرجه على هيئة نداء ضافٍ بالعبودية، وبلفظ الربوبية الحاني أيضا حين قال﴿ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ (إِلَيْكَ) ﴾، وهو طلب رؤية من عبد أن يتجلى له ربه الرحمن سبحانه، وقد كان من تعليله أنه يريد أن ينظر إليه!
وهكذا نقف خاشعين مخبتين عند هذا القول الكريم من عبد كريم لرب كريم، أنه يريد أن ينظر إليه، وليكتب التاريخ أن أفرادا كان لهم مع ربهم الرحمن ذلكم الشأن العلي السامق، حتى نالوا به أسمى الدرجات وأرفعها وأعلاها، وساما على صدورهم، وتاجا على رؤسهم، أن﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا﴾[النساء:164]. وكأنما هم يحكون بلسان حالهم أنه ما كان اصطفاء إلا من موجب كاف، و أنه ما كان اجتباء إلا من سبب مقنع واف! وموجبه أنه كان نبيا، وسببه أنه كان رسولا، ذلك لأنه ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾[الأنعام:124].
وهذا الاشتياق الإضافي البدهي الطبعي لرؤيته تعالى، وإذ كان من سببه على ما ذكر الإمام الطبري رحمه الله تعالى عن الربيع, في قوله: ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم: 52]، قال: حدثني من لقي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرّبه الربّ حتى سمع صَرِيف القلم, فقال عند ذلك من الشوق إليه: ﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ﴾. [جامع البيان في تأويل القرآن، أبو جعفر الطبري، المحقق: أحمد محمد شاكر، ط(1) : (13/91)].
وليس يسعنا موافقة من قال إن المقصود بهذه الرؤية هو نوره تعالى، أو على أنه أراد: أرني آية عظيمة لأنظر إلى قدرتك; وذلك لأنه صرف للنظم عن ظاهره، وهو باد لك كيفما يكون بدو، وهو ظاهر أمامك أيا ما يكون ظهور، ولأنه قال ﴿ إِلَيْكَ ﴾، و كان جوابه تعالى ﴿ قَالَ لَن تَرَانِي ﴾ ، إذ إنه لو كان قد سأل الله تعالى آية لأعطاه الله سؤله ، كما هو عهده به سبحانه، حين ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ ﴾ [طه:36].
وإنه تعالى قد "بعث موسى بتسع آيات بينات ، وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون ، وهي : العصا ، واليد ، والسنين ، والبحر ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، آيات مفصلات ؛ قاله ابن عباس"[تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) :ج3/61]."وقد أوتي موسى ، عليه السلام ، آيات أخر كثيرة ، منها ضربه الحجر بالعصا ، وخروج الأنهار منه ، ومنها تظليلهم بالغمام ، وإنزال المن والسلوى"[المرجع السابق] .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ ، قَالَ : قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ لِآخَرَ : انْطَلِقْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ ، قَالَ : لَا تَقُلْ هَذَا ، فَإِنَّهُ لَوْ سَمِعَهَا ، كَانَ لَهُ أَرْبَعُ أَعْيُنٍ ، قَالَ : فَانْطَلَقْنَا إِلَيْهِ ، فَسَأَلَاهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } ، قَالَ : لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَلَا تَسْرِقُوا ، وَلَا تَزْنُوا ، وَلَا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ وَلَا تَسْحَرُوا ، وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا ، وَلَا تُدْلُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً يَهُودُ أَنْ لَا تَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ فَقَالَا : نَشْهَدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.[مسند أحمد ابن حنبل أَوَّلُ مُسْنَدِ الْكُوفِيِّينَ حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ، حديث رقم:17835]. فقد قال عنه الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى " وهو حديث مشكل ، وعبد الله بن سلمة في حفظه شيء ، وقد تكلموا فيه ، ولعله اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات ، فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون"[تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) :ج3/61].
فسؤال نبي الله موسى عليه السلام رؤيته تعالى إنما هو طلبٌ على الحقيقة، وهو ما يتفق وسياق الآية محل البيان. ولذا كان الجواب الرباني الحاني على عبد ذي لهفة إلى رؤية ربه الكريم ذي الجلال سبحانه، وهو إذ يأخذه شوقه، وإنه إذ يكتنفه ولهه، وليس في المعاني ما يهديء من ذلكم وَجْدٍ، أو يخفف من ذلكم وَلَهٍ، سوى أنه يريد أن يكشف الله تعالى له الحجب، وغير أن يتجلى له ربه الرحمن عيانا ظاهرا!، وإذ كان ذلكم غير ممكن وقوعه في دار الدنيا، وإذ كان يمكن أن يقف الجواب الرباني الكريم عند قوله تعالى﴿ قَالَ لَن تَرَانِي ﴾ ، ولكنه لما كان الرب الرحيم يعلمنا أدبا في كلامنا، وإذ لما كان ربنا الرحمن سبحانه يدلنا لطفا في حديثنا، ورفقا في بياننا، فكان منه قوله تعالى ﴿ وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ﴾ تذييلا وتعليلا وتقريبا وإقناعا حانيا.
ولكنه ولما كان ذلكم غير مقدر في الدنيا، ومنه كان ذلكم النداء الرباني العملي الحاني للنظر إلى الجبل، وما أتى بعدها! ومنه أيضا كان تأويل أهل البيان عن الله تعالى لذلك أنه ليس إحالة الرؤيا، كيما لاتفهم هكذا، وإنما على أن تلكم الإحالة مقطوع بها في الدنيا وحسب. بدليل ما جاء نظما محكما منه تعالى بإثبات رؤيته تعالى في الآخرة لأصحاب الجنة إكراما وجزاء ونعمة وفضلا منه تعالى وشرفا لعبد أن ينال شرف النظر إلى مولاه، وإذ هو يتجلى لعُبَيْدِه في مشهد مهيب، ليس في قدرة البلغاء وصفه، وخارج عن بلاغة الأدباء نعته، وإذ ليس لنا إلا أن نخر له ساجدين مخبتين خضعانا وخشعانا!
وسؤال نبي الله موسى عليه السلام رؤيته تعالى إنما هو طلبٌ على الحقيقة، وهو ما يتفق وسياق الآية محل البيان.
و﴿ لَنْ تَرَانِي ﴾ إذ كتب الله تعالى ألا يراه أحد في الدنيا، وحسبنا ذلك، بلا تعليل؛ كعدم قدرة عبد على تحمل النظر إلى وجه ربه الرحمن سبحانه، أو لعدم ثباته عند ذلك ونحوه، ذلك لأنه تعالى إذ لو أنه كان قد كتب في قضائه إمكان تجليه في الدنيا، لخلق ما به يستطيع عبد قد تشرف بذلكم فضل، ولمَّا قد رأى ربه الرحمن سبحانه، وهو إذ يتملى ذاتا عز جلالها، وهو إذ يري نفسا جل جاهها !
وأما في الآخرة فقد ثبت في محكم آي الكتاب المجيد والأحاديث الصحيحة أن المؤمنين يرون ربهم في روضات الجنات. ومنه فلا داعي لقول إنهم منشؤون تنشئة تجعلهم يستطيعون معها رؤية اللّه تعالى. فذلكم كله لا طائل من ورائه، إذ كان يمكن أن يخلق الله فيهم ما به يقدرون على رؤيته في الدنيا، لو أنه أراد ذلك. ولكنه لما كان الأمر محصورا بجنات، فحسبنا أن نقف عنده، وفيه غنية والحمد لله رب العالمين. على أنه تعالى جائز الرؤية وذلك لأنه تعالى لو كان مستحيل الرؤية لقال: لا أُرَى.
قال الله تعالى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۞ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾[ القيامة: 22، 23]. وقوله تعالى إخبارا عن الكفار: ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: 15 ].
وأخرج الإمام مسلم رحمه الله تعالى عَنْ صُهَيْبٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ ، قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا ؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ ؟ قَالَ : فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَزَادَ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }"() [صحيح مسلم، كِتَابُ الْإِيمَانَ، بَابُ إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ رَبَّهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، حديث رقم: 298].
وقوله تعالى﴿ لَنْ تَرانِي﴾ من قبيل الاستئناف البياني، إذ لما سأل نبي الله موسى عليه السلام ربه سبحانه الرؤية، فكأن قولا محذوفا دل عليه السياق مقتضاه: بم رد الله تعالى على سؤال نبيه حين سأله؟ ومنه كان جوابه تعالى﴿ قالَ لَنْ تَرانِي﴾.
هذا؛ ولعل مبحثا ذا صلة بمسألة جواز رؤيته تعالى على قول أهل السنة في الآخرة، أو عدمها على قول المعتزلة.
ومنشأ الخلاف قد نشأ من وجه النظر إلى حرف النصب(لن) الوارد في قوله تعالى ﴿لَنْ تَرانِي﴾.، وعما إذا كان المعني به النفي في المستقبل مع النصب، أو تأكيد ذلكم النفي المستقبلي، أو تأبيده، أو تأكيده وتأبيده معا. أو" أن (لن) لتأكيد نفى ما وقع السؤال عنه، والسؤال إنما وقع عن تحصيل الرؤية في الحال فكان قوله: لَنْ تَرَانِي نفيا لذلك المطلوب، فأما أن يفيد النفي الدائم فلا " [التفسير الكبير، الفخر الرازي : ج١٤/ 357 ].
على أنني أشير أني لم أشأ التعرض لذلكم تفصيلا، وذلك لأن لي منحا نحوته حين تناول آي الكتاب المجيد، أن يكون منصبا على أوجه البلاغة فيه والإعجاز، وحسبي ذلك.
ومنه فقد رأيت أن التعرض لهذه المسائل ربما ألقت بظلالها على معنى لم أرمه، أو على اتجاه لم أقل به، ولذا فقد كان به سبب عدم تبني تفصيله .
إلا أن عبارة العماد ابن كثير رحمه الله تعالى تعتبر توفيقا ملائما في هذا الباب، وذلك على الرغم من أن أخذها على ظاهرها ينحو بها نحوا آخر، ولعله تصحيف على ما قيل. حيث قال" وقيل : إنها لنفي التأبيد في الدنيا ، جمعا بين هذه الآية ، وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة " [تفسير ابن كثير ج2/276]. ومن حيث وُجِّهَ أنها للنفي وللتأبيد في الدنيا ، وهو جمع حسن بين نظم الآية ، وبين ما سبق من دليل الرؤية في الدار الآخرة.
ومنه فيحمل تأبيد عدم الرؤية على أنه في الدنيا. وليس يحمل على أنه أراد آية عظيمة لإمكان النظر إلى قدرته تعالى ; ذلك لأنه قال (إليك) ومن ثم كان رده تعالى ﴿لَنْ تَرانِي﴾، وينضاف إليه أن نبي الله تعالى موسى كعبد من عبيده تعالى، وإذ يجري في حقهم ذلكم التنزيل الكريم، والذي كان من نصه﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة:186]. ، فضلا عن أن يكون نبيا رسولا، وكمثل سائر أنبيائه تعالى، وفضلا عن أن يكون موسى خاصة، لمواقفه المعهودة مع ربه الرحمن سبحانه، ولما قد أجابه ربه فيما سأله أو طلبه أو دعاه، كما سبق بيانه.
ونفي الله تعالى رؤية نبي الله موسى عليه السلام ربه هو نفي إيجابي، بمعنى أنه ليس له عليه السلام من بعده طلب أو سؤال، أو مراجعته لخالقه سبحانه، إذ قد تكوَّن في خلده أن ذلكم طلبا غير ممكن إجابته فيه.