كان تحويل القبلة في السنة الثانية من الهجرة قبل غزوة بدر الكبرى، برهانا على أنه تعالى له المشرق والمغرب وأينما نولي وجوهنا فثم وجه الله. وكما قال سبحانه ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾[البقرة:115].
كان تحويل القبلة ابتلاء منه تعالى لعباده، وأنهم متعبدون بأمره ونهيه، وحيث كانت وجهتهم هي ربهم الأعلى، ولا ضير إذاً أن تكون إلى المشرق أو إلى المغرب.
إنه ليس يهم تاريخ تحويل القبلة، كونه كان في رجب أو نصف شعبان، فهذا درس تاريخٍ وحسب، وإنما المهم علمُ أننا أمة متعبدون بأمره تعالى، فعلا أو تركا، وذلك اختبارا لمدى عبودية العبيد ربهم الحق سبحانه.
كان تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام أول نسخ في الإسلام، برهان اعتداد بالنسخ، خلاف قائلين بغيره، وهذه مسألة أصولية لها بحثها وبسطها في موضع آخر.
صلى نبينا صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس، وهذا برهان شدة وحرص متابعة القوم لنبيهم، وليكون اقتداؤهم برهان عبوديتهم لربهم، وعلى شرعه تعالى وحده، لا هوى متبعا.
إن صلاة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس مع ميله إلى البيت الحرام قبلةً، برهان أنه صلى الله عليه وسلم إنما يعمل على هدي ونور من ربه، وليس له من أمره من شيء، فما بال غيره؟
إن رغبة نبينا صلى الله عليه وسلم جعل قبلته إلى البيت الحرام مع بقائه إلى بيت المقدس، برهان مجانبة رغباتنا، واتباع الدليل، وإن خالفها، ولأنه تعالى أعلم.
إن في تطلعه صلى الله عليه وسلم تحويل القبلة، بيان مدى صبره صلى الله عليه وسلم على أمر ربه، وأنه تعالى مُرْضٍ عبده، إذا صبر، دلالة تحويلها إلى البيت الحرام، أمرا وإرضاءً.
إن تطلع نبينا صلى الله عليه وسلم إلى تحويل القبلة، كان برهان تعلقه بالبيت الحرام، ولأنه أول بيت وضع للناس، وأجل الكعبة البيت الحرام، مثابة للناس وأمنا. وكما قال تعالى﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾[ آل عمران:96 و 97].
إن بيت المقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين، وهو عِقْدُ كل مسلم، ولا يغير من هذا غبار يهود، حينا من بعد حين آخر، لعلمهم أن عملهم زبد، يذهب جفاء!
إنني أرى البيت المقدسي شامخا عاليا، تملؤه السكينة، وأن مريدا له بضر سيقصمه مولاه، ولأنه تعالى يغار، وأشدها غيرة إذا انتهكت محارمه، كما قال صلى الله عليه وسلم : إنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وإنَّ المُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللهِ أَنْ يَأْتِيَ المُؤْمِنُ ما حَرَّمَ عليه. [صحيح مسلم: 2761].
إن فعل يهود في بيت الله المقدس لا يغير من أمره من شيء, وسيظل عاليا تملؤه السكينة، ويعلوه الوقار، وما فعلهم إلا زيادة بريق له ولمعان!
﴿قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾[ البقرة:144]. لم يمر وقت، دلالة فاء التعقيب، حتى صرفه مولاه إلى الكعبة إكراما له.
إن صرفه تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قبلة بديلة، برهان قيمته، ودلالة اهتمامه تعالى بإرضائه، دلالة الفعل ﴿تَرْضَاهَا﴾، والمشارق والمغارب كلها لله تعالى.
عند النظر إلى الفعلين ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ﴾[ و ﴿فَوَلِّ﴾، فكان الأول قسما مبرما، مقدمةً، وكان الثاني جوابا مسابقا الزمن، نتيجةً، برهان وفاء ربنا لعهد قطعه على نفسه سبحانه.
مر رجل على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي ﷺ ِقبل مكة فداروا كما هم قبل البيت! أرأيت كيف كانت متابعتهم لنبيهم ﷺ.
عن البراء بن عازب "كانَ أوَّلَ ما قَدِمَ المَدِينَةَ نَزَلَ علَى أجْدَادِهِ، أوْ قالَ أخْوَالِهِ مِنَ الأنْصَارِ، وأنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وكانَ يُعْجِبُهُ أنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وأنَّهُ صَلَّى أوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا صَلَاةَ العَصْرِ، وصَلَّى معهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى معهُ، فَمَرَّ علَى أهْلِ مَسْجِدٍ وهُمْ رَاكِعُونَ، فَقالَ: أشْهَدُ باللَّهِ لقَدْ صَلَّيْتُ مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كما هُمْ قِبَلَ البَيْتِ، وكَانَتِ اليَهُودُ قدْ أعْجَبَهُمْ إذْ كانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ، وأَهْلُ الكِتَابِ، فَلَمَّا ولَّى وجْهَهُ قِبَلَ البَيْتِ، أنْكَرُوا ذلكَ".[ صحيح البخاري: 40].
وإنه لتمر علينا أحداث يقلب أحدنا فيها بصره مرة ثم يفتى! وكانت تمر عليهم دونها، فيبقون مكانهم لا يتحركون إلا أن يسألوا رسولهم، وماذا هم فاعلون؟!
إن فارقا بيننا وبينهم، أنهم كانوا لا ينقلون خطوا عن خطوٍ، إلا بهدي، ونحن نسير خبط عشواء، نقلب الكتاب كله؛ لنجد فيه ما وافق قولنا، وإن بعدت به الشقة!
﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾[ البقرة:142]. والسفهاء هم يهود! مهنتهم تربصهم بوقائع المسلمين وأحداثهم؛ ليبغوا خلالها؛ زعزعة لثقتهم، وأنى لهم؟!
وهذا إعجاز قرآننا، ولأن يهود قالوها، ولأنه ﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾[ القصص:69].
قال الله﴿ قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾، حين قال ﴿السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾[البقرة:142].
كان نبينا ﷺ يصلي في مكة إلى بيت المقدس، والكعبة بين يديه، وكان الأمر بهذه المثابة غير ملفت، إلا أنه ﷺ حين صلى في يثرب، والكعبة من خلفه، ومن هنا تشوفت نفسه ألا يستدبرها، ومنه علم ربنا تعالى ما خاطبه به ﴿قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ .
إنه ومهما يكن من أمر فإن نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، برهان مراعاة التشريع لما تهفو إليه قلوب العباد، وحيث كان في دينهم سعة.
إن اطلاعا أوليا على باب النسخ، يوقفنا على كم كان التشريع، إلى جانب رفع الحرج ودفعه، وجلب اليسر ووضعه، ولعلمه تعالى أن فينا ضعفا فأزاله.
إن تشوف نبينا ﷺ أن تكون الكعبة قبلته حياء استدبارها، وإذ يصلي في يثرب، علاوة على أنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، فأراد ﷺ جمع الخيرين معا .
إن جعل الكعبة قبلتنا، هو ما يوافق لإعمال قوله تعالى﴿ وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾[البقرة:125]. وإلا ما أمكن ذلك وهذا من توطئات التنزيل الحكيم .
حين نزل الأمر﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ خطب نبينا ﷺ المسلمين، وأعلمهم به، برهان أن الأمر على الفور، لا التراخي، سعة عبد منيب، وقدرة ولي لله أواب، تيسيرا من الله تعالى العظيم الوهاب.
نزل الأمر بتحويل القبلة بين الظهر والعصر، فصلى نبينا العصر إلى الكعبة، وهذا برهان مسارعة إلى الطاعة، أول أمرها، وإلى الصلاة أول وقتها.
يلاحظ من فقه سيرته ﷺ أنهم كانوا ينتظرون أمر السماء، فيتبادرونه أسرع ما تكون مبادرة تلبية لأمر السماء، فيعملونه أقدر ما توافرت قدرة وسعة نشاطا وهمة وإقداما، ولقوله تعالى﴿ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾[البقرة:286]. وقوله تعالى﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾[التغابن:16].
وإنه ليهون الأمر، وحين علمنا نبينا ﷺ أن يهود تحسدنا على ثلاث، وحين قال ﷺ «إنهم لم يحسدونا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله إليها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا، وعلى قولنا خلف الإمام آمين».
وأما من كان قد صلى قبل وقبلته بيت المقدس فقد حسم بقوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾[البقرة:143].