هذا جزء من حديث صحيح، رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ونصه: " إنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتابًا قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهو مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ "[1].

وهو يمثل دليلا ضافيا على مدى سعة رحمة الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه، وهو داع بنصه ألا يقنط أحد من رحمته تعالى، ودلك عليه قوله تعالى﴿ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾[الحجر:56]. ودلك على ذلك أن رحمته تعالى قد سبقت غضبه! وليس لقائل من بعدها من قول! وليس لشارح من إثرها من شرح! إذ إنها وبنظمها كافية، وإذ هي وبتركيبها لوافية!

بيد أن طمعا في نيل رحمته أبى إلا القول، وغير أن استغراقا في الرجاء كان زادا إلى البيان! ذلك لأن الله تعالى قد منح عباده طمعا فيما عنده من رحمة، وذلك أن الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه قد وهبهم رجاء فيما أعد عنده من رأفة.

وثمة جانب آخر متعلق بهذا الذي مضى؛ ذلكم لأنه يبين لنا كيف أن الشارع الحكيم الله تعالى تتشوف آياته لمغفرة الذنوب لعباده، وهو سبحانه إذ يرسل إليهم شذرات التوبة والمغفرة ليمنحهم من موجبها رحمة من عنده، وليهبهم توبة ومغفرة من لدنه تعالى. ألم تر أن الله تعالى قد أيقظ في ضمائرنا المسارعة إلى التوبة والمغفرة في آيات تترى من كتابه الذكر الحكيم سبحانه؟ وانظر إلى قوله تعالى ﴿ وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾[آل عمران:133]. وقوله تعالى ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾[النور:21]. وقوله تعالى في آية اشتهرت بأنها الأرجى في كتابه تعالى ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر:53]. في توكيد تام واضح على المبالغة في المغفرة، وكذا في توثيق وتقرير كاملين على المبالغة في الرحمة.

وهذا مما يلفت النظر أكثر، وهو مما يقف بنا على ضعفنا أعظم, ذلك لأنه تعالى ومن منطلق علمه عنا بضعفنا المتناهي ضعفا، ومن سابق عهده تعالى عنا المتناهي إليه فقرا، وعن حقيقة مسكنتنا، وهو سبحانه الذي نعت نفسه الكريمة بأنه ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ [الأنعام:(133)]. في تعبير ضاف عن معاني الربوبية الحانية، وفي دلالة واضحة على مدى فقرنا وحاجتنا إليه تعالى، وإلى عونه ومغفرته ورضوانه.

وأقول مرة أخرى لما سبق ولغيره: فقد سبق عفوه عما يجول بخواطرنا، مما الله تعالى به عليم، أو قد فعلنا من سابق ذنوب وآصار وأوضار، وإن ذلك ليمحوه استغفار، وإن ذلك لتكفره توبة، وإذ لولا حلمه تعالى بنا لانتهينا، وإذ لولا رحمته تعالى بنا لقصمنا، وإذ لولا لطفه بنا لذهب بنا، وأتي بقوم آخرين، وإذ لولا صفحه ما ترك على ظهرها من دابة، كما قال تعالى﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾[فاطر:(45)], ولكنه الغفور الرحيم، ويكأنه هو التواب الرحيم.

بل إن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم قال" وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لو لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لهمْ"[2]. في دلالة حانية رحيمية على مدى التجاوز والصفح الرباني الكريم بالعباد الضعفاء الفقراء المساكين. فربنا الرحمن سبحانه لا يؤاخذ بجريرة وإنما يكفر السيئات ويمحو الخطيئات ويتجاوز عن الزلات، وانظر إلى حديث أبي  هريرة رضي الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول : من يدعوني ، فأستجيب له من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له"[ صحيح البخاري، كتاب التهجد، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل، حديث رقم: 1106].    

وتتظاهر آيات المن، وتتضافر عطايا الصفح، كيما تمدنا بعونه، وكيما تأخذ بأيدينا إلى طوق النجاة، فيرسل الله تعالى إلينا من آياته، ما يكون عونا لنا على نيل فوز، وما يكون لنا إضافة إلى فضل رحمة وعفو وغفران، وما يكون سببا لنا ألا نغرق فنهلك! ألم تر أن الله تعالى ربك الرحمن سبحانه قال ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[الحديد:(9)]! في تأكيد واف شاف على سابغ رحمته، وعلى عموم رأفته(بكم) أجمعين إذن! فلا يكاد أحد أن يخرجه ربه عن قانون رحمته، إلا أن يكون ماردا، وإلا أن يكون شاردا! ذلك لأن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم قال "كُلُّ أُمَّتي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَن أَبَى، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَن يَأْبَى؟ قالَ: مَن أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن عَصَانِي فقَدْ أَبَى"[]. [صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، حديث رقم: 2212].

ولذلك جاء نظم القرآن المجيد في غير ما موضع نصا على أن رحمته تعالى وإن كانت قد سبقت غضبه، إلا أن قانونا يحكمها، وإلا أن نظاما يرتبها، كما قال تعالى ﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾[الأعراف:156]. في دلالة واضحة وضوح شمس النهار في ضحاها، وقمر الليل إذا تلاها، أن رحمته تعالى منحة لمن اتقى، وإنها لجزاء لمن ﴿ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾[البقرة:112] ، واتبع ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل:(123)]. ، وإنها لثمرة جهد جهيد، وعمل دؤوب، في نيل رضا الله تعالى، وتحقيق مناط هذه الرحمة الربانية الكريمة!

وانظر مرة أخرى لترى كم كان ثمنها غاليا، كما قال رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم " مَن خاف أَدْلَج ، ومَن أَدْلَج بلغ المنزلَ ، أَلَا إنَّ سِلْعَةَ اللهِ غاليةٌ ، أَلَا إنَّ سِلْعَةَ اللهِ الجنةُ"[3].

ذلك لأن ثمنها هو التقوى عموما، وكان من مثال التقوى هو أداء الزكاة، عن طيب خاطر واحتسابا، كما قال تعالى﴿ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾.

وآياته بينات واضحات لنجاتنا، وبيناته كفلق الصباح لفلاحنا، وإلا فقد كان رَقِيقا سائغا سَلِسا  ممكنا ألا نراها، منه تعالى قدرا مقدورا، وقد كان  رحبا سهلا أن نُحْرَمَهَا قضاء ميسورا.

هذا ومن سابق ضعف العباد، وعلمه السابق بهذا الضعف اللامتناهي، كانت رأفته تعالى بهم رحمة من عنده، ليذيب بها غشاوة ذنوبهم، وليغسل بها حوبتهم، ويقبل بها أوبتهم، ويقيل بها عثرتهم، رحمة من لدنه وتوبة ورضا وقبولا، إذ من لهم سواه فيغفر؟! وإذ من لهم سواه فيرحم؟! وإذ كان في عقدهم  ذلكم المعنى الحاني الرضي اللطيف، والذي منه تفوح أزكي الرحمات من مقتضى قوله تعالى ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك:(2)]!

ومنه فقد تأكد في قلوب العباد عن ربهم الحق الرحمن سبحانه كل صفات الجلال، وأتم معاني الإجلال له تعالى، وذلك لأنه سبحانه أظهر الجميل، و ستر القبيح، ولا يؤاخذ بالجريرة، و لا يهتك الستر، عظيم العفو، حسن التجاوز، واسع المغفرة، باسط اليدين بالرحمة، صاحب كل نجوى، ومنتهي كل شكوى، كريم الصفح، عظيم المن، مبتدئ النعم قبل استحقاقها.

وثمة جانب آخر ملفت؛ ذلك أنك تلحظ ملحظا عجيبا! مقتضاه أن أسماء الله تعالى الحسنى قد تضمنت كثيرا من الأسماء الإيجابية في مسألة التوبة ودلالاتها عليها، ومنها :التواب، الغفار، الرحمن، الرحيم، الرؤوف، وفي مقابل ذلك فإنك لاتجد اسما واحدا من أسمائه الحسنى يحيل إلى معنى العقاب أو العذاب! اللهم إلا اسما واحدا، وهو المنتقم، ومن رحمته تعالى أيضا أنه ليس اسما متفقا عليه بين أولي العلم بالرحمن سبحانه، فدل على أنه تعالى سابق الرحمة، واسع المغفرة، كما قال تعالى ﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾[النجم:31].

وما جاء من أفعال أطلقها الله تعالى على نفسه على سبيل الجزاء والمقابلة والعدل والعقاب ولم يتسم منها باسم، من كونه تعالى شديد العقاب، ومن كونه تعالى شديد العذاب، فإن ذلك كله ليس من أسمائه تعالى، وإنما وقع موقع الجزاء، عدلا منه تعالى، كيما يقوم كونه تعالى على الميزان والقسطاس المستقيم، ومن ثم فإن أسماءه تعالى الحسنى كلها أسماء مدح وحمد وثناء وتمجيد له تعالى، وإنها كلها صفات عفو وكمال، ونعوت صفح وجلال، وأسماء رحمة وجمال، لله تعالى ربنا الرحمن سبحانه،  وإنها أفعال حكمة ورحمة ومصلحة وعدل منه تعالى، وإنه تعالى يدعى بها استقلالا، وإنها أسماء تقتضي مدحه تعالى وثناء عليه سبحانه بنفسها.

[1][صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم: 7554 ].

[2][صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم: 2749 ].

[3][ صحيح الجامع، الألباني، الجزء أو الصفحة:6222].