اختلف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في المغانم يوم بدر، لكن هذا لم يمنع حقا لأخ على أخيه، ولم يغمط بسببه أخ أخاه، دينا ألف بينهم، وإسلاما جمع شملهم .
وإذ كان الأصحاب في بدر ثلاثة أقسام:
1- قسم كان حارسا لنبينا صلى الله عليه وسلم.
2- وقسم كان في الميدان، فيقتل أو يأسر.
3- وقسم كان يجمع المغانم.
ورأى كل فريق أحقيته في المغانم دون الآخر، ومن باب عمله الذي كان منوطا به.
وإنما أنزل الله تعالى فرقانا، فحكم بقسمتها سويا، ولأن كل فريق ما كانت لتقوم معركة من دونه، جنبا إلى جنب إلى الفريق الآخر.
ففي حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه: سَأَلتُ عُبادةَ بنَ الصَّامتِ عن الأنفالِ، فقال: فينا مَعشَرَ أصحابِ بَدرٍ نَزَلَتْ حين اختَلَفْنا في النَّفَلِ، وساءتْ فيه أخلاقُنا، فنَزَعَه اللهُ مِن أيدينا، فجَعَلَه إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقَسَمَه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فينا عن بَواءٍ، يقولُ: على السَّواءِ.[1].
وإذ نزلت سورة الأنفال مبينة توزيع الأنفال، وبعد اختلاف الأصحاب فيها، حتى ساءت بسببه أخلاقهم، فنزعه الله منهم، وهذا شؤم الاختلاف، سببا لنزع الخير، وحلول ما موجبه سوء خلق، لطالما وقف الإسلام منه موقفا حازما.
وإذ كان نزول سورة الأنفال رحمة منه تعالى، وكيما لا يُعَضَّ على الدنيا، فتهلِك عاضا عليها، كما قد أهلكت الذين خلوا من قبل، وحين كانت لهم هما وشغلا.
وحين نزلت الأنفال مبينة توزيعها قسطاسا مستقيما، أوقف الله تعالى به شرا مستطيرا، كاد يحيق بأصحاب العدنان، ومقاتلي الميدان، وأهل الإيمان.
وإذ حسن وضع اختلافهم في الغنائم موضعا حسنا، وذلك لأنهم أولاء هم الذين هاجروا وتركوا الديار والأموال في مكة، حسبة لله تعالى، وما كان من أولاء إخوانهم الأنصار أيضا، والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم، وإذ ناصفوا إخوانهم أموالهم وأهليهم، إيثارا، ما جاد التاريخ بمثله! ومن هنا فإن ما حدث في شأن الغنائم، يوم بدر، ليوضع في نصابه جنبا إلى جنب مع هؤلاء جيلٍ، سبق وصف جانب من مناقبهم وحسبنا!
ولهذا السبب فإنه سرعان ما يتنزل قرآن، ترجع معه الفئة المؤمنة أوَّابَةً تَوَّابَةً، وإذ كان من وصفها ما حكاه ربنا سبحانه بقوله﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 2- 4].
ولعلك ناظر بعينيك أنه لم يرد في الآية ذكر للدنيا ولا غنائمها ولا نفلها، ما يردهم ربهم الرحمن إلى الأصل الذي آمنوا فيه، وحين تواءم تماما مع قول أحدهم ولما أعطاه نبينا صلى الله عليه وسلم فيئه سهمه: ما على هذا اتَّبعتُكَ!
فعن شداد بن الهاد: أنَّ رجلًا مِنَ الأعرابِ جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فآمَنَ بِهِ واتَّبعَهُ وقالَ: أُهاجرُ معَكَ فأوصى بِهِ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بعضَ أصحابِهِ فلمَّا كانَت غزوةٌ ، غنِمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فيها أشياءَ ، فقَسمَ وقسمَ لَهُ فأعطَى أصحابَهُ ما قَسَمَ لَهُ وَكانَ يرعى ظَهْرَهُم . فلمَّا جاءَ دفَعوا إليهِ فقالَ: ما هذا ؟ قالوا: قَسْمٌ قَسمَهُ لَكَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ . فأخذَهُ فجاءَ بِهِ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ: يا مُحمَّدُ ، ما هذا ؟ قالَ: قَسمتُهُ لَكَ . قالَ: ما على هذا اتَّبعتُكَ ، ولَكِنِّي اتَّبعتُكَ على أن أُرمَى هاهُنا وأشارَ إلى حلقِهِ بسَهْمٍ فأموتَ وأدخلَ الجنَّةَ . فقالَ: إن تَصدُقِ اللَّهَ يَصدُقْكَ فلبثوا قليلًا ، ثمَّ نَهَضوا إلى العدوِّ ، فأتى بِهِ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يُحمَلُ ، قد أصابَهُ سَهْمٌ حيثُ أشارَ . فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: أَهوَ هوَ ؟ قالوا: نعَم قالَ: صدقَ اللَّهَ فصدقَهُ وَكَفَّنَهُ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في جُبَّةٍ ، ثمَّ قدَّمَهُ فصلَّى عليهِ . فَكانَ مِمَّا ظَهَرَ مِن صلاتِهِ عليهِ: اللَّهمَّ إنَّ هذا عَبدُكَ ، خرجَ مُهاجرًا في سبيلِكَ ، فقُتلَ شَهيدًا ، أَنا شَهيدٌ علَيهِ[2].
هذا، علاوة على أن الآية التي بين أيدينا الآن، وإن لم تأت على ذكر الدنيا أو أموالها، لا مدحا ولا ذما، وإنما قد أمعنت في تحويل دفة الطلب إلى شراع البذل والإنفاق! وحين قال تعالى﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ وليعرفوا أن هذه هي منزلتهم عند ربهم منفقين باذلين، لا آخذين مستشرفين!
وكان نزول الأنفال أجرا حسنا، ولما علم تعالى دبيب ما يعوق قلوبا مؤمنة، فنزعه منها صقل إيمانهم، وإرجاعهم، وتثبيتهم، فلا يجعلونها هما موبقا.
وإذ قال الله تعالى﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[الأنفال:1]. هكذا يرد الأمر إليه تعالى وحده، راحةَ نفسٍ، وأُلفةَ قلبٍ، ونزعَ فتيلِ ما سببه زعزعة الصف، وخِلال فيه.
ومن حيث تضمنت هذه الآية ثلاثة شروط لتحقيق صدق الإيمان وهي:
1 - تحقيق تقوى الله تعالى في السر والعلن.
2 - إصلاح ذات البين ولأن فساد ذات البين يمتد شرره امتداد النار في الهشيم، وكما روى أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبرُكم بأفضلَ من درجةِ الصِّيامِ والصَّلاةِ والصَّدقةِ قالوا بلى قالَ صلاحُ ذاتِ البينِ فإنَّ فسادَ ذاتِ البينِ هيَ الحالِقةُ[3].
3 – تحقيق طاعة الله تعالى ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا، ولست أذهب مذهب قائل بنسخ آية الأنفال الأولى؛ ولأنها تعني إرجاع الأمر إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ورده إليهما، في كيفية توزيع الغنائم، حكما عاما، قسطا بين المسلمين.
وعليه فإنه يمكن أن يجمع بين آية الأنفال الأولى، نصا في الاحتكام إلى الله تعالى، ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، في الأنفال عامة، وبين آية الأنفال(41)، بيان قسمتها، ومستحقيها، وأنصبائها خاصة. وكما قال تعالى ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنفال:41].
والغنيمة هي المال المأخوذ من الكفار عن طريق الحرب والقتال. كمالٍ أو أسرى وسبايا من نساء وأطفال، أو أرض، وسميت أنفالا؛ لأنها زيادة في أموال المسلمين.
وإنما أحل الله تعالى الغنائم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، دون غيرهم، جبرا لخواطرهم، وتقوية لهم من ضعفهم، وإغناء لهم من فقرهم، وإعانة لهم على عدوهم، واستنهاضا لعزائمهم. ولأنها أمة مرابطة، فكان ذلك متضمنا إيجاد مصادر تمويلية دائبة معينة على الجهاد وتبعاته الكثيرة العديدة. وكما أن فيه إذلالا وإثخانا بعيدين غائرين عميقين في قلوب أعداء الله تعالى، وحين يكون حرمانهم من أموالهم وأرضهم وأبنائهم ونسائهم، ولعلهم أيضا يعودون فيتوبون، ولما كان هذا هو مصيرهم المحتوم.
فعن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ مِنَ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، وأَيُّما رَجُلٍ مِن أُمَّتي أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لي الغَنَائِمُ، وكانَ النبيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ كَافَّةً، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ[4].
وإنما تعطى غنيمة الحرب لمن شهدها، قاتل في الميدان، أو لم يقاتل، كحارس، أو مرابط، أو جامع للغنائم.
وشروطها خمسة: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورية. فإن اختل شرط، فلا يعطى مغنما، وإنما يُرضِخ الإمام له، أي أنه يعطيه فيمنحه عطاءً.
وتقسم الغنيمة خمسة أخماس، فخُمُسٌ لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، ينفق في مصالح المسلمين كالفيء، وأربعة الأخماس للمقاتلين، للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهمان اثنان لفرسه، وسهم واحد له، ومساواة بأخيه الراجل.
ولعل حدسا قد حدث، وكأنه كان توطئة ربانية منه تعالى، وحين وفق سبحانه الصحابي الكريم عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه يوم سريته، وقبيل يوم بدر بشهرين، أن قسم ما غنمه فيها، وأبقى خمسا لنبينا محمد ﷺ، وهو ما نزل القرآن الكريم مؤيده، وبقوله تعالى﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وكما سبق صحبا كراما، جُعِلَ الحقُ على ألسنتهم، وجعل العدل في قلوبهم.
وظاهر الآية على أن الخمس كان مبدؤه يوم بدر تصريحا وتشريعا، ومنه فإن لهذه الغزوة قصب سبق في بيان أحكام الغنائم والأنفال على النحو السابق بيانه. وهو الذي عليه جمهور أهل العلم.
ومن السنة أيضا، فعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: "كَانَتْ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنْ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَانِي شَارِفًا مِنْ الْخُمُسِ فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِيَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعَدْتُ رَجُلًا صَوَّاغًا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ أَنْ يَرْتَحِلَ مَعِيَ فَنَأْتِيَ بِإِذْخِرٍ أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ الصَّوَّاغِينَ وَأَسْتَعِينَ بِهِ فِي وَلِيمَةِ عُرْسِي فَبَيْنَا أَنَا أَجْمَعُ لِشَارِفَيَّ مَتَاعًا مِنْ الأَقْتَابِ وَالْغَرَائِرِ وَالْحِبَالِ وَشَارِفَايَ مُنَاخَتَانِ إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ رَجَعْتُ حِينَ جَمَعْتُ مَا جَمَعْتُ فَإِذَا شَارِفَايَ قَدْ اجْتُبَّ أَسْنِمَتُهُمَا وَبُقِرَتْ خَوَاصِرُهُمَا وَأُخِذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ حِينَ رَأَيْتُ ذَلِكَ الْمَنْظَرَ مِنْهُمَا فَقُلْتُ مَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَالُوا فَعَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ فِي شَرْبٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِي الَّذِي لَقِيتُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا لَكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ عَدَا حَمْزَةُ عَلَى نَاقَتَيَّ فَأَجَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا وَهَا هُوَ ذَا فِي بَيْتٍ مَعَهُ شَرْبٌ فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِدَائِهِ فَارْتَدَى ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ حَمْزَةُ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنُوا لَهُمْ فَإِذَا هُمْ شَرْبٌ فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلُومُ حَمْزَةَ فِيمَا فَعَلَ فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةً عَيْنَاهُ فَنَظَرَ حَمْزَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى رُكْبَتِهِ ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى سُرَّتِهِ ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ هَلْ أَنْتُمْ إِلاَّ عَبِيدٌ لِأَبِي فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ فَنَكَصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى وَخَرَجْنَا مَعَهُ"[5].
والشاهد: قوله رضي الله تعالى عنه: كَانَتْ لي شَارِفٌ مِن نَصِيبِي مِنَ المَغْنَمِ يَومَ بَدْرٍ، وكانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أعْطَانِي ممَّا أفَاءَ اللَّهُ عليه مِنَ الخُمُسِ يَومَئذٍ، فدل على العمل بالخُمُسِ من يوم بدر. والجمهور على أن ابتداء فرض الخمس كان بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية[6].
والشارف هي المسنة من الإبل.
وإنما كان حمزة مسكرا، وقبل نزول تحريم الخمر، ولأنه رضي الله تعالى عنه قتل يوم أحد، وكان تحريمها بعدها، ولأنه ﷺ لم ينكر عليه حينها، ونعرفه من سياق الحديث، وإذ: فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ فَنَكَصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى وَخَرَجْنَا مَعَهُ.
وفيه رفع القلم عمن هذا حاله، ومن حيث أتى بعمل غير محرم حينها، وأما بعد فيؤاخذ، ولأنه أتى ما علم من شرعنا أنه محرم بالضرورة، فكان لا يميز بعمله، حتى لايفيد من عمله! فيصير الشرع هوانا.
ويجوز تنفيل بعض المجاهدين، بإعطائهم زيادة على سهمهم، تشجيعا وتحريضا، أو لعمل مميز قام به أحدهم، كإنكاء في عدو، أو بلاء حسن تفرد به.
ويجوز اختصاص بعض المجاهدين بنفل - أي زيادة - وقبل إخراج الخمس، لأنه ﷺ تنفل سيفه ذا الفقار من مغانم بدر، وذلك لما رواه عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تنفَّلَ سيفَه ذا الفَقارِ يومَ بدرٍ، وهو الَّذي رأَى فيه الرُّؤيا يومَ أُحُدٍ[7]. وكذا تنفل جملا كان لأبي جهل. وذلك يوم بدر أيضا، فعن عبدالله بن عباس أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أَهدى في بدنِهِ بعيرًا كان لأبي جهلٍ في أنفِهِ برةٌ مِنْ فضةٍ[8].
ولما كان يوم بدر قال رسول الله ﷺ: «من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا». وفيه جواز النفل لبعث همة رجال الوقعة فيثخنون، ولشحذ نفرتهم فيذودون.
و"الأنفال مرجعها إلى حكم الله ورسوله يحكما فيها بما فيه المصلحة للعباد في المعاش والمعاد"[9].
وإذ كانت النساء تداوي جرحى بدر، ولم يُقسَمْ لهن سهمٌ من الغنائم، لكنه رُضِخَ لهن، فأعطاهن جعلا خارج القسمة، وتقديرا لجهودهن، وبذلهن، ورفعا من شأنهن.
فعن يزيد بن هرمز: أنَّ نَجْدَةَ، كَتَبَ إلى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ، عن خَمْسِ خِلَالٍ، فَقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَوْلَا أَنْ أَكْتُمَ عِلْمًا ما كَتَبْتُ إلَيْهِ، كَتَبَ إلَيْهِ نَجْدَةُ: أَمَّا بَعْدُ، فأخْبِرْنِي هلْ كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَغْزُو بالنِّسَاءِ؟ وَهلْ كانَ يَضْرِبُ لهنَّ بسَهْمٍ؟ وَهلْ كانَ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ؟ وَمَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ اليَتِيمِ؟ وَعَنِ الخُمْسِ لِمَن هُوَ؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ ابنُ عَبَّاسٍ: كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي هلْ كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَغْزُو بالنِّسَاءِ؟ وَقَدْ كانَ يَغْزُو بهِنَّ، فيُدَاوِينَ الجَرْحَى، وَيُحْذَيْنَ مِنَ الغَنِيمَةِ، وَأَمَّا بسَهْمٍ فَلَمْ يَضْرِبْ لهنَّ، وإنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ، فلا تَقْتُلِ الصِّبْيَانَ، وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي مَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ اليَتِيمِ؟ فَلَعَمْرِي، إنَّ الرَّجُلَ لَتَنْبُتُ لِحْيَتُهُ وإنَّه لَضَعِيفُ الأخْذِ لِنَفْسِهِ، ضَعِيفُ العَطَاءِ منها، فَإِذَا أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِن صَالِحِ ما يَأْخُذُ النَّاسُ فقَدْ ذَهَبَ عنْه اليُتْمُ، وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الخُمْسِ لِمَن هُوَ؟ وإنَّا كُنَّا نَقُولُ: هو لَنَا، فأبَى عَلَيْنَا قَوْمُنَا ذَاكَ. وفي روايةٍ: عن يَزِيدَ بنِ هُرْمُزَ، أنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إلى ابْنِ عَبَّاسٍ، يَسْأَلُهُ عن خِلَالٍ... بمِثْلِ حَديثِ سُلَيْمَانَ بنِ بلَالٍ. غَيْرَ أنَّ في حَديثِ حَاتِمٍ: وإنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ، فلا تَقْتُلِ الصِّبْيَانَ، إلَّا أَنْ تَكُونَ تَعْلَمُ ما عَلِمَ الخَضِرُ مِنَ الصَّبِيِّ الذي قَتَلَ. وَزَادَ إسْحَاقُ في حَديثِهِ، عن حَاتِمٍ، وَتُمَيِّزَ المُؤْمِنَ، فَتَقْتُلَ الكَافِرَ، وَتَدَعَ المُؤْمِنَ[10].
والشاهد قوله: وَقَدْ كانَ يَغْزُو بهِنَّ، فيُدَاوِينَ الجَرْحَى، وَيُحْذَيْنَ مِنَ الغَنِيمَةِ، وَأَمَّا بسَهْمٍ فَلَمْ يَضْرِبْ لهنَّ، فدل على جواز مداواة النساء جرحى الحروب، كما دل على مسألتنا، وأنهن لم يقسم لهن من الغنيمة، وإن أعطاهن وأحذاهن منها قدْرا مقدورا.
ولست أريد الوقوف على حكمة عدم قسم لهن محددا في الغنائم سواسية مع شقائقهن الرجال، ولأن جهادهن فرع عن أصل، كان الرجال هم المكلفون به ابتداء، ولأن ما يمكن قوله إنه ﷺ أعطاهن، ولم يهملهن، وهذا في حد ذاته جبر وتلطف وإكرام، ولعله ﷺ أعطاهن أكثر نصيبا من الرجال، ومن حيث لم يسعفنا دليل حول ذلك نعرفه، ولعل قولا منضافا مقتضاه؛ وحتى لا يستشرفن خروجا للقتال، فيزاحمن الرجال، على نحو يفتن، أو على شاكلة تخرج بهن عن مصاف الحشمة والحجاب، اللتين لطالما كانت وقارهن وهيبتهن معا. وخاصة عند تباعد الأزمان عن أزمنة الوحي والهدى والنور والصلاح والحبور، وكما قال أنس بن مالك رضي الله تعالى: إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أعْمالًا، هي أدَقُّ في أعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إنْ كُنَّا لَنَعُدُّها علَى عَهْدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ المُوبِقاتِ قالَ أبو عبدِ اللَّهِ: يَعْنِي بذلكَ المُهْلِكاتِ[11].
والشاهد: أن تباعد الأزمان مظنة تحللٍ أو تساهلٍ.
[1][تخريج المسند، شعيب الأرناؤوط:22753]. حكم المحدث: حسن لغيره.
[2][ نخب الافكار، العيني: 7/400]. خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح.
[3][صحيح الترمذي الألباني:2509].
[4][ صحيح البخاري: 438].
[5][فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، كتاب فرض الخمس:3091].
[6][فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، كتاب فرض الخمس: 6/198].
[7][العلل الكبير، البخاري: 258].
[8][أحاديث معلة الوادعي:224]. حكم المحدث: معل.
[9][البداية والنهاية، ابن كثير، ج ٣ / ٣٦٩].
[10][صحيح مسلم: 1812].
[11][صحيح البخاري: 6492].