قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى:" حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضى الله عنهما ـ قَالَ لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأَخِيهِ ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي، فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ ائْتِنِي. فَانْطَلَقَ الأَخُ حَتَّى قَدِمَهُ وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ، فَقَالَ لَهُ رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ، وَكَلاَمًا مَا هُوَ بِالشِّعْرِ. فَقَالَ مَا شَفَيْتَنِي مِمَّا أَرَدْتُ، فَتَزَوَّدَ وَحَمَلَ شَنَّةً لَهُ فِيهَا مَاءٌ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَأَتَى الْمَسْجِدَ، فَالْتَمَسَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلاَ يَعْرِفُهُ، وَكَرِهَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ بَعْضُ اللَّيْلِ، فَرَآهُ عَلِيٌّ فَعَرَفَ أَنَّهُ غَرِيبٌ. فَلَمَّا رَآهُ تَبِعَهُ، فَلَمْ يَسْأَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَىْءٍ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ احْتَمَلَ قِرْبَتَهُ وَزَادَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَظَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلاَ يَرَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَمْسَى، فَعَادَ إِلَى مَضْجَعِهِ، فَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ فَقَالَ أَمَا نَالَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَهُ فَأَقَامَهُ، فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ لاَ يَسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَىْءٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ الثَّالِثِ، فَعَادَ عَلِيٌّ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَقَامَ مَعَهُ ثُمَّ قَالَ أَلاَ تُحَدِّثُنِي مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ قَالَ إِنْ أَعْطَيْتَنِي عَهْدًا وَمِيثَاقًا لَتُرْشِدَنَّنِي فَعَلْتُ فَفَعَلَ فَأَخْبَرَهُ. قَالَ فَإِنَّهُ حَقٌّ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَاتْبَعْنِي، فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ شَيْئًا أَخَافُ عَلَيْكَ قُمْتُ كَأَنِّي أُرِيقُ الْمَاءَ، فَإِنْ مَضَيْتُ فَاتْبَعْنِي حَتَّى تَدْخُلَ مَدْخَلِي. فَفَعَلَ، فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدَخَلَ مَعَهُ، فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي ". قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ قَامَ الْقَوْمُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ، وَأَتَى الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ قَالَ وَيْلَكُمْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ وَأَنَّ طَرِيقَ تِجَارِكُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِ لِمِثْلِهَا، فَضَرَبُوهُ وَثَارُوا إِلَيْهِ، فَأَكَبَّ الْعَبَّاسُ عَلَيْهِ"[1].
هذا حديث صحيح رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، رأيته عظيم الأثر، وألفيته واسع النظر، لأنه يحكي لنا سيرة الصحابي أبي ذر، جندب بن جنادة الغفاري - رضي الله تعالى عنه - في ألطف عبارة، ويقصص علينا إلماحة عنه في أجمل إشارة، وها أنا ذا أسوق إليك ملاحها، وأزف إليك بدائعها، وأهدي إليك جماعها، في سرد خفيف، وفي قول لطيف، وفي عرض دقيق، وفي بيان شفيق، يأخذ بمسامعك، ويستجمع إليك بصائرك. احتفاء بفقه الأولين، واقتداء بسير الصالحين. جعلنا الله تعالى وإياكم منهم أجمعين، وألحقنا بهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر يوم الدين.
وإذ كان بدؤه ببحث عن حق، هو فطرته تعالى للناس أجمعين، أولهم وآخرهم، وهو ما يعطي النص زخما، كما أنه يلهمنا به اقتداء حسنا، بحثا عن الحق وجعله منهاج حياة، إذ به تكون النجاة، وإذ فيه يكون الافتداء.
وإذ كان منه تسليته بأخيه, وإنه لمنهج نبوي، وهو سبيل قرآني، رأيناه ونحن إذ نتلو قول الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه عن نبيه موسى عليه السلام، وهو إذ يطلب منه أن يرسل معه أخاه هارون، ردءا يصدقه، فدل على ما للأخ من قيمة، وأبان عما له من أهمية عظيمة، فارعها يارعاك مولاك، وعض عليها جعلت الجنة مأواك، قال الله تعالى ﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ﴾ [القصص:(34)].
وإذ يقره ربه - سبحانه - على حسن طلبه، وإذ يجيبه بإجابة سؤله، دلالة على ما للأخ من سند لأخيه، وعلامة على ما له من فضل لا غيره فيه يدانيه، ودلك عليه قوله تعالى ﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾[القصص:34،35].
وإذ كان فيه ائتمانه على سر أفضى به إليه، لتتبقى سيرة حسنة للأجيال، في ائتمان من هو بها جدير، ومن كان لها أهلا من أقربين، ومن أبعدين.
وإذ كان منه التثبت في الأخبار، وإذ كان منه التيقن في الأنباء، لأنَّ أبا ذرٍّ رضي الله عنه، ولما لم يبدُ له ما يريده، ولما كان منه أنه لم يظهر ما يضره ولا يفيده، حتى يتحصَّل على بغيته، وقد تأنَّى فيما قد كانت إليه رغبته، في بحثه عن النبي ورسالته، وعن صدق نبوءته، كيما يظفر بمتابعته صلى الله عليه وسلم، ولقد كان منه السُّؤال عنه خفية لا علانية، كيما لا يدرك أمره، وكيما لا يوقف على سيره، فتثنيه قريش عن هدفه، وتوقفه حينها عند حده، أو توثقه عندها في عقله.
وإذ كان منه بيان صدق أخيه، ولما أن صدق قوله حين قال:(رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ)، وهذه من ألف باء دعوة الحق والإصلاح، وإذ لا نزال في معزل أن نأخذها على ظاهرها وحدها؛ وذلك لأن الرسول النبي محمدا صلى الله عليه وسلم، صحيحٌ أنه كان يدعو إلى مكارم الأخلاق وأحاسنها وأجملها وأفضلها وأحمدها، لكنه أيضا كانت مبادئ دعوته الأولى هي إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. ثم كانت مكارم الأخلاق من صدق وأمانة ووفاء بعهد وما سواها تبعا لدعوة لا إله إلا الله. اللهم إن قلنا إن دعوة لا إله إلا الله وحدها هي من مكارم الأخلاق، بل إنها لتعد أرفعها وأعلاها، وإنها لتحسب أقواها وأسماها، وذلكم لأن عبادته تعالى وحده، ونفي عبادة ما سواها لهو من تمام الخلق وأحسنه مع الله تعالى رب العالمين سبحانه، ولما أن كان من أسوئه خُلُقاً أن يعبد معه غيره أو من دونه، أو أن يشرك معه سواه سبحانه، ولما قد تفرد بالربوبية، ولما قد انتصب وحده بالألوهية، ولما أن كان ذلكم هو سابغ حق أصيل له، وإذ قد تفرد في خلق؛ فكان حقا أن يتفرد في أمره ونهيه، وقوله وفصله، وحلاله وحرامه، وشرعه وبيانه.
أوَ لمَّا أدُلك عن مكارم الأخلاق كلها، وهو ما أفيده من قول أكثم ابن صيفي حين وصف القرآن قائلا:" إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رؤوساً، ولا تكونوا أذناباً"[2]. أو لما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها حين سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالَتْ: كان خُلُقُه القُرآنَ"[3]. وبهما أدلك على أن أمر القرآن مع الخلق الحميد كان رفيعا ساميا عاليا سامقا.
وإنما كان قول أكثم سالف البيان، ولما أن سمع قوله تعالى﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[النحل:90]. وذلك رغم تفسير قوم آخرين بأن العدل هنا هو التوحيد. كما " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ} قال: شهادة أن لا إله إلا الله"[4]. فدل إذن على أن رسالة الإسلام من سموها اشتمالها على الحق كله، وكان منه مكارم الأخلاق، أو قل: إن مكارم الأخلاق رديف التوحيد، ومنه فيجمل جمع بين قول أخي أبي ذر من قبل، وبين قول أكثم من بعد؛ وقول غيرهما من قبل ومن بعد، لتأتلف الأقوال، ولينتج عنها نبيل الأفعال، وحميد الخصال. ولما كان التوحيد من ذلكم إلا قريبا، ولست أحسبه عنه بعيدا، ولو قيد شبر واحد!
أو قل ثالثا بأن الرجلين الذين هما أنيس أخو أبي ذر، والآخر هو أكثم ابن صيفي، ولما قد كانا على غير الإسلام، فلربما لم يحسنا نقلا، ولعلهما لم يتقنا وصفا، لما سمعوه، من أنها إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
ولما كان كلامه( كَلاَمًا مَا هُوَ بِالشِّعْرِ). وذلكم هو القرآن ولاشك؛ لأن صنيع القرآن في الأنفس لعجيب! وذلك لأن أثره فيها لمعجز، وذلك لأنه قد كان وصفا له قوله تعالى ﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت:41-42]. وإذ كان من أثر له كعمل خلاب في أسماع من سمعوه، وذلك لأن له أثرا خلاقا في أفئدة من فقهوه، وذلك لأن له موجبا جذابا في الأبصار تجلية ونورا حين النظر فيه، وذلك لأن له وجها غير ذوات الوجوه من اللغات والألسنة واللهجات على اختلافها، وحتى إنك لتكاد تعجب أن أحدهم ربما كان أعجميا صرفا، ولما يسمع القرآن لتجدن له أثرا فيه معجزا! وقد وقفت على شيء من ذلك حين مطالعتي لكتاب (موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة المطهرة)، وكيف أنهم عرضوا مرضى إلى إسماعهم القرآن العظيم، وما كان إلا قد انضبط وضعهم عند المستوى الصحي الأسمى! ولما كان قد سمع الذكر الحكيم، والقرآن العظيم، وبغير تفرقة بين ما إذا كان المقروء عليه مسلما أو كافرا! لكنه ذلكم الأثر الكريم لكتاب الله تعالى المجيد أيضا. بل إن قوما أرادوا أن يشككوا فقالوا: أنتم تقرؤونه على سبيل التلاوة، وهو لاشك يفهم من خلال ذلك أنه قرآن! فعرضوا القراءة على وجه لايكاد يفرق فيها بين قرآن ومقروء سواه، وأخذوا يقرأون وكأنما يقرأون جريدة يومية، وإذ بالوضع الصحي يتعدل مرة أخرى لدى من اختيروا لإجراء التجارب عليهم تطوعا![5].
وعلى كل حال فهذه شهادة أخرى، منضافة إلى شهادات عز حصرها، من عليم بالأشعار أن القرآن العظيم قد عز أن يقوله قائل، وقد أعجز أن يأتي بمثله شاعر أو كاهن، ولا أن يأتي أحدهم ولو بآية من مثله، أي ما يتخيل أنه من مثله، وليس يكون! كيف؟ و﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ *تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الحاقة:40 – 43].
وإذ كان من قوله(مَا شَفَيْتَنِي مِمَّا أَرَدْتُ)! وذلك لبقية تثبُّتٍ رآها لازمة لإطباق على الإذعان للحق عن يقين. وهو ما نفيده من اشتراط شرط اليقين المنافي للشك لدى علاجنا لشروط لا إله إلا الله؛ وذلكم كيما يكون إيمانا صادقا راسخا ثابتا، وذلك لأن عقبات الطريق كثيرة متنوعة متعددة متباينة، ولا يمكن أن يتأثر الإيمان حينها، ولو بإحداها، ولما قد كان عن يقين وقبول وصدق وعلم وإخلاص وانقياد ومحبة. كان في الحسبان بيانها، لولا أنه ليس ذاك أوانها.
وإذ كان من شأنه أنه(فَتَزَوَّدَ وَحَمَلَ شَنَّةً لَهُ فِيهَا مَاءٌ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ)! ويكانها شنة! وما أدراك ما شنة! و" الشن: القربة الخلق، والشنة أيضا، وكأنها صغيرة، والجمع الشنان"[6]. وانظر إلى تزوده! إنه شنة ! فيها ماء! كناية عن تواضع، ودلالة على كفاف، وإن هذا هو الصنف الذي يمكن أن يقوم الإسلام على أعناقه بحق، لا ذلكم النفر الذي يؤثر فراشا وثيرا، أو طعاما هنيئا، أو شرابا مريئا، دلت العادة على أنه طعام المترفين، وشهدت الأعراف أنه شراب المتنعمين!
وإذ كان من شأنه أنه (فَأَتَى الْمَسْجِدَ) دلالة على ذكائه وفطنته معا، ذلك لأن نبيا كان من دعوته التوحيد، على ما سمع عنه، لقمن به أن يكون متعلقا فؤاده بالمسجد، وذلك لأن الصلاة هي تلكم الرابطة الإيمانية بين عبد حنيفي وربه الرحمن سبحانه، بل إنها لزاده بين قوم كان من شأنهم ما عرف عنهم من صلف وعداء للدعوة الجديدة، ورسولها محمد صلى الله عليه وسلم، فكان لابد له من زاد إيماني لا يصقل قلبه سوى الصلاة، ولا يسد مسده سوى المناجاة، وليس يفي بغرضه غير الوقوف بين ربه خاشعا مخبتا إلى مولاه, ومنه نظر أوليٌّ إلى أهمية المسجد في الإسلام، ومنه وجه عملي في نطاق أفراد الأمة والإمام تماما بتمام.
وقوله:" فَالْتَمَسَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلاَ يَعْرِفُهُ، وَكَرِهَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ" كناية عن شدة حرصه رضي الله تعالى عنه على الحق، ومعرفة سبيل نجاته، وإدراكه طريق فلاحه وصلاحه. وهذا دأب الصالحين عموما، أن كان همهم الأعظم هو تحصيل مراد الله تعالى فيهم، من إدراكهم الخير والهدى والإيمان والتقوى والصلاح والفلاح.
وكراهيته أن يسأل عنه؛ كناية أخرى عن مدى حكمة كان قد تحلى بها، ودلالة على حسن فقه أحوال الدعوة، فأخذ الحيطة والحذر والبعد عن مظان التهور، وانكشاف أمر الدعاة، ولما لم يقو لهم عود، هو فقه يجب إعماله، وهو درس لايجوز إغفاله؛ وذلكم كيما لا يحصدون واحدا تلو أخيه، بدعوى الشجاعة والإقدام!
وقوله:( ثُمَّ احْتَمَلَ قِرْبَتَهُ وَزَادَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ)، فيه دلالة على حسن أن يكون المسلم عفيفا، فلا يسأل أحدا شيئا، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فإن ذلك هو مناط العزة، وإن ذلك هو ميدان العفاف، وإن هذا لهو المسلك الحق الصدق، حين يخطو مسلم أبي لايعرف إلا بإبائه، وحين يعهد، فلا يعهد إلا بتعففه، وعزة نفسه، وهذا من مآلات المروءة والنفوس الكريمة، أن كانت قوية لا ضعيفة، أبية لا منكسرة، عزيزة لا ذليلة، مرفوعة الرأس أبدا، لايعرفها انحسار، ولايدركها صغار!
كما وأن فيه التزود للأيام الباقية؛ فإنه ليس يدرى لها أمد، وإنه ليس يعرف لها انتهاء، وإن كان قد عهد لها ابتداء. فإن إدارة عملية الإمداد لهي من الحكمة في مسيرة عمل الدعاة، وغيرهم من السواد الأعظم من الناس، على كل الجبهات، وعند سائر الحالات.
وفيه الرضا بالقليل، والاكتفاء بالنزر اليسير، كيما يكون خفيفا في حركته، وكيما يكون قنوعا في رغباته، وكيما يكون مهذبا ميوله، ليحمل من طعامه ما يكفي لسد جوعه، ومن الماء ما يكفي لري ظمائه.
وقوله: (إِنْ أَعْطَيْتَنِي عَهْدًا وَمِيثَاقًا لَتُرْشِدَنَّنِي فَعَلْتُ). فيه دلالة على جواز أخذ الميثاق من سائر من يمكن التعامل معهم، ضبطا للعلاقات حسنها، ولضمان قيامها على الثقة، أما حين تترك الأمور هكذا عشوائية، دونما ضابط في العهود، وبغير ما تنظيم لعملية سيرها، فإن خللا محققا أن يصيبها، وإن ثلما مؤكدا لسوف يعوقها، حين مسيرتها نحو الانضباط المطلوب، والتميز المرغوب.
وقوله: (ففعل فأخبره). دلالة على لين جانب الإمام على ابن أبي طالب، وطمأنته أخاه أبا ذر - رضي الله تعالى عنهما - وهذا عامل حاسم في قيام العلاقات على حسن إدارة أمورها، وهو عامل تتفرد به الجماعة المتآلفة، حين تصبو إلى إقامة مجتمعها على البر والتقوى والإيفاء بالوعود، واحترام المواثيق، لينشأ مجتمعها حانيا لطيفا، تحفه الثقة، وتعلوه الألفة، كأثر لها أول ما يكون مردوده عليها ، وكأثر عمل صالح يكون أول خيره عائدا إليها، وكثمرة حلوة غضة ندية طرية تكون مذاقا للسائرين، وتصبح زادا للقانتين، نحو العلو والرقي الكريم.
وقوله:(فَإِنَّهُ حَقٌّ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم). فيه دلالة على قول الحق، و الإِنْصاف والصدق فيه، كما أن فيه برهانا على ذكر الخير والبِرّ والقيام عليه. وإن فيه لعونا على الإقامة على القسط والسير به، طمأنة لباحث عن الحق بالحق. كيما يقف على قدمين ثابتتين، ولما كان أول عهد له بالدين الجديد، وهو ما يلزمنا حين نقدم الخير للناس، وأن نبعث فيهم دالات اليقين، ودلالات الاطمئنان، تنشئة لهم على الحق، مطمئنة به قلوبهم، متيقنة له أفئدتهم، أما حين يترك أمر الدعوة لمثيري الإرجاف، فإن عنتا لسوف تذوق مرارته القوافل والجماعات، وإن سلبا لسوف تعيش ويلاته الطوائف والمجموعات.
وقوله: (فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَاتْبَعْنِي، فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ شَيْئًا أَخَافُ عَلَيْكَ قُمْتُ كَأَنِّي أُرِيقُ الْمَاءَ، فَإِنْ مَضَيْتُ فَاتْبَعْنِي حَتَّى تَدْخُلَ مَدْخَلِي. فَفَعَلَ، فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ). وفيه دلالة على حكمة علي رضي الله تعالى عنه، وفطنته وعلمه، بما يمكن أن يطلق عليه (سلاح الإشارة) أو (استعمال الشفرات)، حسبما كان معروفا لديهم، ولدى غيرهم، مما تعارفت عليه أمة، أو قد تعاهدت به فئة، لإدارة إخفائها، عن عيون أعدائها، وهو أمر وجب إعماله، وهو نظر بعيد جد العلم به، والسير عليه، اتقاء لشر، أو إبعادا لمظنة، أو وقاية من تهمة.
وما أجمله من تعبير رضي حين قوله: فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ شَيْئًا أَخَافُ عَلَيْكَ! حكاية لمشاعر مسلم نحو أخيه أنه يخاف عليه! وفي حنو يروي لنا كم هي أحاسيس مسلم نحو أخيه! محبة له وخوفا أن يتسرب خبره، وخشية أن ينكشف أمره!
وقوله: (فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدَخَلَ مَعَهُ، فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ). فيه مسارعة إلى الخير، وما كان قد جاء إلا من أجله. وأحسب أن ألفاظ الحديث مواتية لتعريفنا بذلكم حرص شديد على محبة الخير، وهو الإسلام ههنا، وأن لهفة تعلوه، وإذ تلمحه وهو( يقفوه)! في دلالة تسابق يحكيها اللفظ، وفي إيجاب تسارع خطا إيجابي، يند عن الوصف، إلا بقوله(يقفوه)!
ودلالة أخرى على مدى شغفه لسماعه الحق، وأفيد منه منقبة له - رضي الله تعالى عنه - كما أفيد تعليما لنا شغفا بهدايتنا إلى الحق محبة له وانقيادا، وهو ما أثمر بحق عن إسلامه لتوه، بلا تلعثم، قد تراه باديا، على محيا امرئ، ولما يعرض عليه أمر جديد.
وقول النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي " لأن دار مكة كانت بيئة غير صالحة لإقامته فيها، بين ظهرانيهم، وخاصة أنه ليس من عصبتهم، ولربما قام فيهم من يحنو عليه، أو يرفق به، كما كان من شأن أبي طالب عم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم معه، دافعا عنه أذاهم، ومنافحا دونه كيدهم. ولو أن الإسلام كان ظاهرا وقتها، لكان من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم معه أمر آخر تماما.
وقول أبي ذر - رضي الله تعالى عنه – (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) دليل على فعل الحق بصاحبه، وأنه يجعله عبدا ربانيا، منطلقا إلى آفاق العلا والمجد بإسلامه، بحيث ليس يخاف في الله تعالى لومة لائم، وهو شأن هذا الدين، حين ترتسم بسماته الوجوه والمحيا، وحين تخلل قسماته الأفئدة والقلوب والألباب. بحيث يدفع صاحبه دفعا إلى حيث مراضيه، ولو كان في ذلك افتداؤه لها بنفسه التي بين جنبيه، وذلك لأنه يعلم قول ربه الرحمن سبحانه﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ ۚ يُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ وَٱلْقُرْءَانِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِ ۚ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِى بَايَعْتُم بِهِۦ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ [التوبة:111].
وفيه إقرار النبي له عن فعله، وإيجابه له عن قوله، دلالة أنه لم ينهه، وأن أمرا كهذا لم يسكت عليه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يتعلق بإقامة شعائر الدين، ولأنه يتعلق بحفظ قوام الملة.
وقوله: (ثُمَّ قَامَ الْقَوْمُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ). فيه دليل مرة أخرى ومرات على أن صاحب الحق لابد له من إيذاء، وأنه وجب في حقه الصبر عليه، واحتساب الأجر في ذلك من الله تعالى العلي الأعلى سبحانه، وهذا أيضا من أبجديات إسلام الوجه لله تعالى ربنا الرحمن، ودلك عليه قوله تعالى ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ ۗ أَلَآ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ ﴾[البقرة:214]. وإلا لما استثنى الله تعالى في قوله ﴿وَالْعَصْر*إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ*إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[العصر:1-3]. كناية على لزوم لحقوق أذي، ودلالة على وجوب الصبر على ذلك؛ كيما يكون امرئ - وهذه حاله - مستثنى من خسار، كان لصيقا بمن تنكب طريق الهدى، فسعى في الأرض فسادا، وأطلق العنان لنفسه عنادا.
[1][صحيح البخاري، باب إسلام أبي ذر، حديث رقم: ٣٩٠٩].
[2][أسد الغابة في معرفة الصحابة، عز الدين أبي الحسن علي/ابن الأثير الجزري:1/272].
[3][تخريج المسند، شعيب الأرناؤوط، الصفحة أو الرقم: 25813]. خلاصة حكم المحدث : صحيح.
[4][تفسير القرآن العظيم، ابن كثير: 2/643].
[5][موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة المطهرة: 598-602 بتصرف)].
[6][لسان العرب، ابن منظور :ج ١٣ /٢٤١].