اللَّذَاذَةُ في بيانِ الاستعاذةِ

الاستعاذة حصن المؤمن، لأن من استعاذ بالله تعالى أعاذه، وهي إشعار لفقر المؤمن، إذ يستشعر حاجته إلى إجارة ربه، ولما قد استعاذ بربه ومولاه، وهي قرين التوحيد، إذ ليس يجد مسلم في ذات نفسه ملجأ إلا إلى الله تعالى وحده، ولما قد أحاط به شرار ما خلق، أو شر غاسق إذا وقب، أو شر النفاثات في العقد، أو شر حاسد إذا حسد،﴿ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ *وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾[الفلق:3-5]. وهي من خصوصيات هذا الدين، إذ لا أعرف أن دينا سماويا أو آخر أرضيا ضمنته الاستعاذة، غير هذا الدين! وما ذاك إلا لأنه مهيمن على ما سواه، والحمد لله، وهي زاد المؤمن إلى ربه، وإذ لما أيقن افتقاره إليه تعالى، ومن ثم لاذ به واستعاذ، وإذ به وكأن مُلْكَاً آخر قد فازه وتملكه، وإذ به تراه وقد حاز القسط الأوفر من العطاء، وإذ به وكأن غنى آخر يتلبسه، لتراه به أغنى الأغنياء، ولأنه قد تلبس غنى قد اصطفاه به ربه وأولاه ﴿فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الحجرات:8]. وهي معقل التحصين، ومصل الادواء، وهي ملجأ المؤمنين إلى ربهم رب العالمين، أن يستعيذوا به تعالى من عدوه وعدوهم. وهي علاج الشياطين، وهي ستار من عداوتهم، وإنها لدثار من غوايتهم، وهي سلاح فتاك في مواجهتهم، وجندهم أجمعين، وهي اعتصام بحبل الله المتين، واستمساك بالطريق المستقيم، والسبيل المستبين، وإنها لدليل حاجة فوق الحاجات، وعنوان عوذ لعونه تعالى وإجارته وعصمته ونجاته، ومنه فقد كانت خبرا أدى معنى الدعاء، ازديادا في إظهار مدى العوز إلى عونه تعالى، وفي إظهار مدى العوذ به سبحانه، وإمعانا في تحقيق اليقين بالله، إذ لا معيذ لمسلم سواه. وفيها معنى الاستجارة بالله وحده، ومن سائر ما خلق، وهي حرز المسلم من إيقاع في كمين، قد نصب له، وهي وقاية لمسلم، من فخ قد حفر له، على جنبات طرقه، وعلى قارعة سبله، ويالها من مهمة هي الاستعاذة، ولما كان ذا هو شأنها، ولأجل هذا حظيت باهتمام القرآن العظيم، حتى إنك لتجدهم يبدأون بها قراءتهم امتثالا لقول الله تعالى ربهم الحق سبحانه ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل:98]. استشعارا لها كل حين، واستحضارا لها كل آن.

وكان من معنى الاستعاذة أنها تحرز وتحصن ونجاة، كما قال أحدهم" اعلم أن لفظ عاذ وما تصرف منها يدل على التحرز والتحصن والنجاة، وحقيقة معناها الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه، ولهذا يسمى المستعاذ به معاذا، كما يسمى ملجأ ووزرا، وفي الحديث أن ابنة الجون لما أدخلت على النبي فوضع يده عليها قالت أعوذ بالله منك، فقال لها: قد عذت بمعاذ الحقي بأهلك // رواه البخاري[1] // فمعنى أعوذ ألتجيء وأعتصم وأتحرز" [2].

والاستعاذة: الاستجارة، وتأويل قول القائل " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " أستجير بالله غيره من سائر خلقه من الشيطان، أن يضرني في ديني، أو يصدني عن حق يلزمني لربي"[3].

وهي الامتناع بالله مما يسوؤه، وهي اعتصام به تعالى مما به ضرره،  إذ"ومعنى (استعذ بالله) امتنع به واعتصم به والجأ إليه، ومصدره العوذ، والعياذ، والمعاذ؛ وغالب استعماله في المستعاذ به، ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «لَقَدْ عُذْتِ بمُعَاذٍ»[4].

وهي وإن كانت خبرا  بمعنى الدعاء، كما قيل " والظاهر أنه خبر معناه الدعاء يعني: اللهم احفظني من وسوسته وإغوائه وخطواته وخطراته وتسويله وإضلاله، فإنه السبب في الضلالة والباعث على الغواية والجهالة، وإلا ففي الحقيقة أن الله هو الهادي المضل"[5]، إلا أنها تختص بالاستعاذة مما به شر، في حين أن الدعاء يعم ما به نفع ليتحصله، أو مما به ضر ليقيه الله تعالى منه، ف" الدعاء أعم من الاِستعاذة، فهو لجلب الخير أو دفع الشر، والاستعاذة دعاء لدفع الشر"[6].

والشيطان معروف، كما قال ابن كثير رحمه الله تعالى " الشيطان في لغة العرب مشتق من شطن إذا بعد فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر وبعيد بفسقه عن كل خير. وقيل مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار . ومنهم من يقول كلاهما صحيح في المعنى, ولكن الأول أصح وعليه يدل كلام العرب "[7]. و"فعيل بمعنى مفعول أي المطرود من باب الله ، أو المشتوم بلعنة الله"[8].

فهذا هو الشيطان، وهذه هي الاستعاذة، و"من استعاذ بالله صادقًا أعاذه"[9]، ودلك على صدق  ما أقول، أن نبي الله نوحا عليه السلام حينما قال: ﴿أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [هود:47]، فإنه تعالى أعطاه حين استعاذ خلعتين، السلام، والبركات، كما قال تعالى ﴿ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ﴾ [هود:48].

ولأن نبي الله يوسف عليه السلام لما قال: ﴿ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي﴾ [يوسف:23]، فقد أعطاه تعالى أيضًا خلعتين، فصرف عنه السوء والفحشاء، كما قال تعالى ﴿كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾[يوسف:24]. ،وأيضًا حينما قال ﴿مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ ﴾ [يوسف:79]. فإنه تعالى أيضا أعطاه الله خلعتين، رفع أبويه على العرش، وخروا له سُجدا.

ومنه قوله تعالى على لسان نبيه موسى عليه السلام ﴿أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [البقرة:67]، لما قالوا له: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ [البقرة:67] في أمر القتيل الذي أمرهم بضربه ببعض البقرة  كما في قوله تعالى ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة:73]، فأعطاه الله تعالى خلعتين إزالة التُهمة، وإحياء القتيل، ومنه أيضا قوله تعالى ﴿عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ﴾ [الدخان:20]، لما قاله لفرعون، وفي الآية الأخرى ﴿إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [غافر:27]، فأعطاه الله خلعتين أفنى عدوه، وأورثهم أرضهم وديارهم.

وهاك معنى لطيفا أشار إليه الإمام الطبري رحمه الله تعالى، إذ قال "وإنما خص موسى صلوات الله وسلامه عليه، الاستعاذة بالله ممن لا يؤمن بيوم الحساب، لان من لم يؤمن بيوم الحساب مصدقا، لم يكن للثواب على الاحسان راجيا، ولا للعقاب على الإساءة، وقبيح ما يأتي من الأفعال خائفا، ولذلك كان استجارته من هذا الصنف من الناس خاصة"[10]. [جامع البيان - إبن جرير الطبري - ج ٢٤ - الصفحة ٧٣].

• الحديث رواه البخاري رحمه الله تعالى عن أبي أسيد رضي الله عنه ، قال : "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى انطلقنا إلى حائط يقال : له الشوط ، حتى انتهينا إلى حائطين ، فجلسنا بينهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اجلسوا ها هنا ودخل ، وقد أتي بالجونية ، فأنزلت في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل ، ومعها دايتها حاضنة لها ، فلما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم قال : هبي نفسك لي قالت : وهل تهب الملكة نفسها للسوقة ؟ قال : فأهوى بيده يضع يده عليها لتسكن ، فقالت : أعوذ بالله منك ، فقال : قد عذت بمعاذ ثم خرج علينا فقال : يا أبا أسيد ، اكسها رازقيتين ، وألحقها بأهلها وقال الحسين بن الوليد النيسابوري ، عن عبد الرحمن ، عن عباس بن سهل ، عن أبيه ، وأبي أسيد ، قالا : تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل ، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها ، فكأنها كرهت ذلك فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيين". [ صحيح البخاري  كتاب الطلاق  باب من طلق، وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق  حديث رقم 4976].
• [ بدائع الفوائد - ابن القيم الجوزية: 2/426].
• [ جامع البيان في تأويل القرآن، أبو جعفر محمد بن جرير: ج1/76].
• [إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان – صفحة - 95].
• [عون المعبود شرح سنن أبي داود، أبو الطيب محمد شمس الحق/العظيم آبادي‎ - ج 1 - الصفحة 105] "
• [ابن عابدين 1 / 20 ط الثالثة، والرهوني 1 / 416 ط بولاق، والمجموع 3 / 323 ط المنيرية].
• [ تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر/ابن كثير الدمشقي: ج1/19].
• [ عون المعبود شرح سنن أبي داود، أبو الطيب محمد شمس الحق/العظيم آبادي‎ - 1/496)].
• [التسهيل لعلوم التنزيل - الغرناطي الكلبي - ج ١ - الصفحة٣٠].
• [جامع البيان - إبن جرير الطبري - ج ٢٤ - الصفحة ٧٣].
• [ينظر في ذلك، تفسير الرازي - الرازي - ج ١ - الصفحة ٧٢].