﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [الممتحمة:1].

وعن علي بن أبي طالب: بَعَثَنِي رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَا، والزُّبَيْرَ، والمِقْدَادَ، فَقالَ: انْطَلِقُوا حتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ؛ فإنَّ بهَا ظَعِينَةً معهَا كِتَابٌ، فَخُذُوا منها. قالَ: فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بنَا خَيْلُنَا حتَّى أتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَإِذَا نَحْنُ بالظَّعِينَةِ، قُلْنَا لَهَا: أخْرِجِي الكِتَابَ، قالَتْ: ما مَعِي كِتَابٌ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ، أوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، قالَ: فأخْرَجَتْهُ مِن عِقَاصِهَا، فأتَيْنَا به رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَإِذَا فِيهِ: مِن حَاطِبِ بنِ أبِي بَلْتَعَةَ، إلى نَاسٍ بمَكَّةَ مِنَ المُشْرِكِينَ، يُخْبِرُهُمْ ببَعْضِ أمْرِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا حَاطِبُ، ما هذا؟! قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، لا تَعْجَلْ عَلَيَّ؛ إنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا في قُرَيْشٍ -يقولُ: كُنْتُ حَلِيفًا، ولَمْ أكُنْ مِن أنْفُسِهَا- وكانَ مَن معكَ مِنَ المُهَاجِرِينَ مَن لهمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أهْلِيهِمْ وأَمْوَالَهُمْ، فأحْبَبْتُ -إذْ فَاتَنِي ذلكَ مِنَ النَّسَبِ فيهم- أنْ أتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، ولَمْ أفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عن دِينِي، ولَا رِضًا بالكُفْرِ بَعْدَ الإسْلَامِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أمَا إنَّه قدْ صَدَقَكُمْ، فَقالَ عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ، دَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَ هذا المُنَافِقِ، فَقالَ: إنَّه قدْ شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ علَى مَن شَهِدَ بَدْرًا، فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ؛ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ. فأنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} إلى قَوْلِهِ: {فقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1][].[صحيح البخاري: 4274].

هذا هو شأن إسلامنا، ليس يترك مناسبة تتعرض فيها الدولة الإسلامية إلى ما يهدد كيانها أو أن يطل فيها من يكون عمله غير صالح إلا وتعرض، وإلا وواجه، وإلا وزأر! وذلك لأن المعيار الذي تقوم عليه شهادة التوحيد هو ذلكم الولاء والبراء في الله، واللذان يحكيان حكاية الصدق في قولها، ويرويان رواية الإخلاص في صحتها.

إن شهادة التوحيد ليست صكا يمنح ودون تبعة، ومنها هو هذا الولاء والبراء في تعالى الحق المبين سبحانه. وتعريتها عن هذا الولاء والبراء يجعلها عدما تماما! وهذا الذي حمل عمر الفاروق على استحصال إذنه صلى الله عليه وسلم لقتل حاطب بن أبي بلتعة، ويوم أن تأول إعلام قريش بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح الأعظم، وفي عبارات تحكي معاني الصدق، وأنه صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده، لنصره الله عليكم، فإنه منجز له ما وعده![].[ البداية والنهاية، ابن كثير: ج ٤ / ٣٢٤].

فهذا قول يحمل ظاهره التنديد والوعيد لقريش مقدم نبينا صلى الله عليه وسلم! ولكنه أيضاً يحمل في ثناياه ما يخالف عقد الولاء والبراء في الله تعالى، ولذا قامت القائمة على إثره، ولا هوادة هنا! لأن الأمر متعلق وكما أسلفنا بحكاية الولاء والبراء، والتي لا يسكت عنها، وإن سكت عنها ساكت!

إن عقيدة الولاء والبراء في الله تعالى هي التي نصب لها الأنبياء لواءها، وكيما تكون عقدا فريدا، لا يزدان إيمان العبد إلا معها! ولا يقيم صلب إسلام المرء سواها، وجنبا إلى جنب مع أخواتها من الأصول، وعملا بها وكذا الفروع !

وليس يكون أعظم مما نحن فيه، وحين واجه المجتمع المسلم كله حاطب بن أبي بلتعة؛ ولأنه لو لم يكن في فعله ما ينقض الإسلام حجرا حجرا! ما فعلوا ذلك، ويتقدمهم نبيهم صلى الله عليه وسلم!

وهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام، وحين واجه أباه قائلا﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴾ [مريم:(48)].

وهذه العقيدة الإسلامية ناصعة كبياض النهار، عبر عنها كل من نبينا صلى الله عليه وسلم ومع حاطب، وكما وعبر عنها أباه إبراهيم عليه السلام ومع والده، في حكاية دين لا يقبل من الطريق أنصافه، وفي رواية نظام عالمي جديد لا يقبل من السبيل أبعاضه!

إن فتح مكة عمل فتحوي هام! كان بداية عصر جديد لمحو الأصنام من القلوب، ولدك هاماتها أسفل سافلين! وليس ينظر في ذلك أن قريشا كانت سدنة البيت الحرام، وليس يغني من ذلك كونها كانت تلت السويق وتوزعه على الناس يوم حجيجهم! فالدين دين، وأوله رسما هو التوحيد، وآخره نظما هو الولاء والبراء في الله تعالى! وإن كل ما يفسر على أنه انقضاض على هذا المعنى أـو كان مغايرا له، فيكون منعدما انعداما مطلقا، لا يلحقه تصحيح، وأمام أية درجة من درجات التقاضي!

إن عقيدة الولاء والبراء في الله تعالى هي المحرك وهي المحك!

وفيها النظر وعليها المعتبر!

ولا شأن لتدافع الناس على أبواب المساجد، أو نصب خيام إطعامهم، أو مما سواهما! وأن عاقلا عالما لا يغرنه التدافع على أبواب المساجد، ودون عرضهم على الولاء والبراء!

إنه لو لم يكن من حاطب إلا أنه كان من أهل بدر لفُعِلَت معه الأفاعيل!

ولكن هذا هو الفاروق عمر يبين لنا عظم فعل حاطب، ولما قال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق.

فقال صلى الله عليه وسلم: «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدرا، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». ولينزل الله تعالى فيها قرآنا يتلى، وإلى يوم الدين، وحين قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾!

ولهذا جاء ختم الآية بمثل ذلك، وحين قال الله تعالى: ﴿ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾. في إشارة إلى خصوصية حاطب لا خصوصية فعله!

* * *

فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه![].[تاريخ الطبري، الطبري: ج ٢ / ٣٢٨].

هذا فعل امرأة تحصنت، وهذا عمل نسوة تحجبت! وإذ كانت مشركة!

قال ابن إسحاق: ثم أعطاه امرأة يزعم محمد بن جعفر أنها من مزينة وزعم غيره أنها سارة مولاة لبعض بنى عبد المطلب [].[تاريخ الطبري، الطبري: ج ٢ / ٣٢٨].

قال: فكتب حاطب كتابا وأرسله مع أم سارة كنود المزني[].[كتاب العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، التقي الفاسي:1/406].

والمثير عجبا أنها وحين عملت عملها، وهو ذهابها سفير شر إلى قريش، إلا أنك تراها متمسكة بحجابها، معتزة بسترها، وعلى كفرها! وحين أبت أن تكشف عن رأسها؛ حتى لا يرى فريق البحث والتتبع- علي والزبير بن العوام والمقداد- شعر رأسها! وهي إذ تكشف عنه لتبرز رسالة حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش! وفي سلوك مهيب حقاً، وفي عمل حشمة ناطق بالفطرة وحقها معا!

وفيه دليل جواز التهديد لإرغام المتهم على الاعتراف، ولقول علي بن أبي طالب: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله ﷺ ولا كذبنا، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك[].[السيرة النبوية، ابن هشام الحميري: ج ٤ / ٨٥٨].

وفيه جواز الحلف لتأكيد صدق فريق البحث الجنائي. ولحمل المتهم على الاعتراف أيضا، ولأن فيه إبهاته، ويكأن فيه استنطاقه.

وفيه جواز التفتيش لاستخراج ما أحرزه المتهم، برهان عمل علي والزبير بن العوام والمقداد، وحين: استنزلاها، فالتمساه في رحلها، فلم يجدا فيه شيئا.

وكما أن فيه إرسال أكثر من واحد في فريق البحث الجنائي، بحثا عن الأدلة تعاونا وكشفا، وضمان عدم الاتفاق مع المتهم، وحين كان البحث الجنائي مؤلفا من واحد وحسب، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أرسل عليا والزبير والمقداد؛ لأداء مهمة استحصال رسالة حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش.

وفيه علم نبوة ضاف لنبينا صلى الله عليه وسلم، وحين أتى رسول الله ﷺ الخبر من السماء، بما صنع حاطب!

وكما أن فيه دفعه تعالى عن عباده، وحين علم منهم صدقهم، وحين تواتر منهم إخلاصهم، وهذه معيته تعالى للمتقين، وحين كانت لهم رداء، ويكأنها أصبحت لهم كساء، وصدق الله تعالى حين قال﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128].

يا حاطب ما حملك على هذا؟

هذا سؤال نبينا صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة، يوم أرسل الى قريش أنه صلى الله عليه وسلم يريد فتح مكة، وأنه لا راد له، ولئن عزم!

بيد أن فيه وجوب التحقيق مع المتهم، ولأن النفوس يكتنفها من الضعف أحيانا ما يحملها على المخالفة، ليس قصدا جنائيا لها، وبقدر ما كان ديوانا ، لا يعبأ الله تعالى به، أو كان ديوانا لا يغفره الله، أو كان ديوانا بين العبد وربه، وكما روى الإمام أحمد والحاكم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله.

فأما الديوان الذي لا يغفره الله: فالشرك بالله, قال الله عز وجل: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ [المائدة: 72].

وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء.

وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً: فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص لا محالة[].[رواه أحمد (6/240) (26073)، والحاكم (4/619). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي في ((التلخيص)): صدقة ضعفوه وابن بابنوس فيه جهالة. وقال أحمد شاكر في ((المسند)) (1/520): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((ضعيف الجامع)) (3022): ضعيف].

وإنما جعل التحقيق حقًا للمتهم، وحقا للمجتمع أيضا، وحفظا النظام العام والآداب، وهو من سلطان ولي الأمر وسلطاته، وليس يقوم به إلا هو أو نائبه، ولفعله صلى الله عليه وسلم مع حاطب بنفسه، وحين تولى بنفسه عملية التحقيق مع حاطب بن أبي بلتعة.

وكذا تحثيثا لمبدأ الأسباب المخففة للعقوبة، وإنما جاء محلها ههنا، وحين أدلى حاطب بحجته، وحين قال: يا رَسولَ اللَّهِ، لا تَعْجَلْ عَلَيَّ؛ إنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا في قُرَيْشٍ -يقولُ: كُنْتُ حَلِيفًا، ولَمْ أكُنْ مِن أنْفُسِهَا- وكانَ مَن معكَ مِنَ المُهَاجِرِينَ مَن لهمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أهْلِيهِمْ وأَمْوَالَهُمْ، فأحْبَبْتُ -إذْ فَاتَنِي ذلكَ مِنَ النَّسَبِ فيهم- أنْ أتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، ولَمْ أفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عن دِينِي، ولَا رِضًا بالكُفْرِ بَعْدَ الإسْلَامِ.

وحينها قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: إنَّه قدْ شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ علَى مَن شَهِدَ بَدْرًا، فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ؛ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ. وحين قال عمر الفاروق: يا رَسولَ اللَّهِ، دَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَ هذا المُنَافِقِ.

وهذا الذي حمل بعضهم إلى التساؤل: هل هذا خاص بحاطب، ولأنه كان من أهل بدر، أم ينسحب على كل نظير؟!

والذي تطمئن له النفس أنه خاص بحاطب أو من كان كمثله مناطا لحكمه.

ولكن: وأنى حكم كحكمه، ولا بدر لدينا؟!