قال الله تعالى ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:102].
وهذه هي الآية الثانية بعد المائة من سورة التوبة، ولعل موقعها من هذه السورة باسمها (التوبة) هو ما يمثل توافقا، لا يخلو من إعجاز، ذلك لأن السورة علم على توبته تعالى عن عباده، وبالتالي يكون موقع هذه الآية بدلالتها على التوبة والمغفرة والرحمة والصفح والتجاوز ليعتبر توافقا، مقصودا ربانيا عظيما هو الآخر أيضا!
وإنما قلت مقصودا ربانيا على الله تعالى، وإذ ليس ذلك افتئاتا على ربي الله! ولأن التواب اسم من أسمائه الحسنى، وكان إيجابيا، بمعنى أنه عز وجل وتبارك يتوب على من تاب، ولأنه سبحانه أخبر بذلك خبرا كاشفا؛ لنراه، وتستكن له قلوبنا، وتطمئن منه أسماعنا، وتستروح به أبصارنا وحين قال سبحانه ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة:118]. وهكذا في ذكر لمفردات التوبة بلغت ثلاثا، مؤتلفة في مبانيها! متحدة في معانيها! وفي حيز قرآني ربما كان قصيرا، وإذ تراه الأعين، وترمقه الأبصار.
ولعل الاعتراف بالذنب، وهو من باب تأنيب النفس لذاتها، هو ما يدفع الإنسان دفعا إلى أن تتفتح أمامه أبواب توبته تعالى عليه، وبالتالي يقدم الإنسان بين يدي ربه تعالى توبة، كان خَلِقًا أن يقبلها سبحانه؛ جودا وكرما وفضلا منه، ولأنه تعالى وعد، وصدق وعده، وحين قال سبحانه ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾[الشورى:25].
ولعل هذا هو المراد من خلط عمل صالح، وهو سائر كل عمل صالح، ومنه التوبة، بعمل آخر سيئ، وهو سائر الذنوب، ومنها التخلف عن ملاقاة أعداء الحنيفية، وحيثما وجب .
هذا؛ ولعل المقصود بالعمل الصالح هو الاعتراف والتوبة والندم، وما سلف من أعمالهم، كجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التوبة حال كان تخلفهم معا.
وإن هذا لا يثنينا عن عموميات القرآن الحكيم، وحين يشير إلى عموم عمل صالح؛ كيما لا يوقف عند أحده أو بعضه؛ ولأن الأعمال الصالحة غير محصورة في هذا الدين، ولأنها معين فياض أبدا، ولأنها ليست ناضبة يوما! وكيما لا يجمع بين نقيضين في آن، وهذه من براعة قرآننا! وتلك من تفانين كتابنا!
وكذا ذلكم الآخر﴿ سَيِّئًا ﴾، وحين أغمض الذكر الحكيم عنه طرفا ذكرا! وحين جاء نكرة؛ ليفيد عموما، كما قد أفاده أيضا قوله تعالى﴿ عَمَلا صَالِحًا ﴾!
بيد أن هذه الآية عجب في نظمها! ذلك لأنها تؤدي بنا إلى تصوير بليغ عودناه القرآن المجيد، وذلك حين يعيش العبد عملية خلط مادي محسوس، وكمثل محلول سكر وماء، ثم ها هو ينقلها إلى حيث عملية خلط معنوي غير محسوس! وكمثل عمل صالح وآخر سيئا! ولأن ذلك عمل آخر من وراء عمل، في تجسيم لطيف للمعنى؛ ليجعله مقبولا سائغا لطيفا نديا!، كيما يصير التفاعل مع آيات الذكر الحكيم، وكما قد أريد لها أن تكون! لا كما يريد أحدنا لها أن تكون! فتلكم هي ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾[البقرة:138].
وتصوير الذنب حال كونه مخالطا للتوبة منه، وكأنه لا مسافة بينية بينهما؛ لتسمح بنكت نكتة سوداء- ولو واحدة- على هذه القلوب الأوابة! كيما لا يحال دون توبة العبد مما اقترفت يداه في حق مولاه تعالى، ثم بحق نفسه التي بين جنبيه!
أقول: إن تصويرا كهذا هو الآخر دلالة على ما استجمع لدى العباد من مخزون إيماني، وما قد تأصل لديهم من رصيد يقيني، كان من شأنهما إفراز تقدير لله تعالى حق قدره، حتى كان منه ذلكم الرجوع، وحتى أثمر منه ذلكم الأوب، في سرعة هي كسرعة امتزاج الخليط أو أشد!
ذلك، وإن قوله تعالى ﴿ خَلَطُوا ﴾ ليشي بضرورة ذلك، كيما تتأكد حقيقة الإنابة إلى الله تعالى مولاهم الحق سبحانه.
بيد أن لطيفة ساقها النظم إلينا سوقا، وحين جاء العمل الصالح سابقا على الآخر السيء منه! استشرافا لكل عمل صالح، وأنه الأصل فيما يأتي العباد، بين يدي ربهم الحق سبحانه، وأن الآخر السيء إنما هو عمل طارئ، وإذ سرعان ما يتذكرون، وكما أثنى ربهم عليهم، وحين قال سبحانه ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].
بيد أن بديعا آخر طرأ، وحين أشير إلى العمل الصالح صراحة باسمه، تبسما من عبقه، وتنسما من حسن كلمه! وأعرض النظم عن الآخر السيء؛ تأففا من ذكره، وتزكما من كيره!
ولكن هذه الآية ضمنت أوجه بلاغية عظيمة وإذ بك وكأنك تلمح إيجاز القصر في قوله تعالى ﴿ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ﴾، ولأن زمنا حتما واقع بين الاقتراف والاعتراف! حكاه ذلكم الإيجاز حكاية، وانصرف النظم عنه صراحة! كيما لا تتجسم صورة كريهة لحال اقتراف الذنب ولمذنبه معا! وهما عاملان في النفوس عملا انقباضيا أغنانا النظم عنه!
وإنه، وإن كان العمل السيء المقصود في هذه الآية هو تخلف نفر من الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين خرج غازيًا, وتركهم الجهادَ مع المسلمين. إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومنه فإن رحمته تعالى تقتضي أن يتكرر ذلكم، وعلى مدار الزمان والمكان. بحيث إنه إذا وجد من خلط عملا صالحا باعتراف بعمله السيء، ثم أتبعه بتوبة نصوح إلى الله تعالى، عنوانها ندم عما فات اقترافه، وصدق عما قدم ارتكابه، فإنه ولا شك لسوف ينسحب عليه نظم هذه الآية الكريمة؛ فتظلله بظلالها الوارفة، كيما تشمله رحمة الله تعالى التي ﴿وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾[الأعراف:156]. وذلك حين علم ذلكم العبد المسكين الذليل الأواب أنه له ربا ناداه محبة ورحمة وعفوا وحلما، وحين قال تعالى ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر:53].
ولذا؛ فإنه يمكن القول بأنها عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلطين المتلوثين الخالطين عملا صالحا وآخر سيئا.
ومنه فإن الأمر واقع، وبقطع النظر عما إذا كان سبب نزول الآية الكريمة في شأن الصحابي الكريم أبي لبابة وحده، يوم بني قريظة، وكما يفهم من رواية ابن هشام رحمه الله تعالى أنه" أقام مرتبطا ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله حتى يتوضأ ويصلى، ثم يرتبط، حتى نزلت توبته في قوله تعالى: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم "[].[ السيرة النبوية، ابن كثير: ج ٣/٢٣١].
ثم أو إنها نزلت في شأنه مع صحبه الكرام، وحين تخلفوا عن غزوة تبوك، وليس بني قريظة وعلى خلاف في المسألة، وحين قالوا باحتمال نزولها غيرة مرة، في بني قريظة وفي شأن أبي لبابة، وفي تبوك وفي شأنه مع صحبه، وكما يتبدى مفهوما من عبارة الإمام الطبري رحمه الله تعالى حيث قال " وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في ذلك, لأن الله جل ثناؤه قال: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم)، فأخبر عن اعتراف جماعة بذنوبهم, ولم يكن المعترفُ بذنبه، الموثقُ نفسه بالسارية في حصار قريظة، غير أبي لبابة وحده. فإذ كان ذلك كذلك, وكان الله تبارك وتعالى قد وصف في قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم)، بالاعتراف بذنوبهم جماعةً, عُلِم أن الجماعة الذين وصفهم بذلك ليست الواحد، فقد تبين بذلك أن هذه الصفة إذا لم تكن إلا لجماعة, وكان لا جماعةَ فعلت ذلك، فيما نقله أهل السير والأخبار وأجمع عليه أهل التأويل، إلا جماعة من المتخلفين عن غزوة تبوك، صحَّ ما قلنا في ذلك. وقلنا: " كان منهم أبو لبابة "، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك"[].[ جامع البيان، ابن جرير الطبري: ج ١١/٢٣]
بيد أن أولاء كانت نظرتهم إلى الذنب عظيمة! وما كان ذلك كذلك إلا لأنهم قدروا الله تعالى حق قدره، وأخذوا قوله تعالى ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾[الزمر:67]. ووضعوه في الفؤاد، قبل أن تتطهر به ألسنتهم، وترتله أفواههم، ولذلك لما أخذوا قرآنه تعالى كمنهج للعمل والتطبيق لما جاء فيه، فكان ذا هو شأنهم، وكانت تلك هي سريرتهم، التي أفرزت سيرتهم العطرة الكريمة، التي بين أيدينا، مائدة لتربيتنا، ومدرسة لأجيالنا.
ودلك على صدق ما أقول ما قاله الإمام الزهري رحمه الله تعالى: كان أبو لبابة ممن تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فربط نفسه بسارية, فقال: والله لا أحلّ نفسي منها، ولا أذوق طعامًا ولا شرابًا، حتى أموت أو يتوب الله عليّ! فمكث سبعة أيام لا يذوق طعامًا ولا شرابًا، حتى خرّ مغشيا عليه، قال: ثم تاب الله عليه, ثم قيل له: قد تيب عليك يا أبا لبابة! فقال: والله لا أحلّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يحلني ! قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحله بيده. ثم قال أبو لبابة: يا رسول الله، إنّ من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب, وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله! قال: يجزيك يا أبا لبابة الثلث. فأخذ ثلث أموالهم وكانت كفارة الذنوب التي أصابوها [].[الاستيعاب، ابن عبد البر: ج ٤ / ١٧٤١].
وأنت ناظر كيف سكوته صلى الله عليه وسلم على عزم أبي لبابة أن يهجر دار قومه التي أصاب فيها ذنبه، برهان جوازه.
وفيه دلالة على فعل الصدقة، وأثرها في تطهير العبد من إثمه، وتخلصه من ذنبه، فيلقى ربه، وحين يلقاه طاهرا، ويعيش يومه، وحين يحياه منيبا ظافرا، وإذ كان فؤاده بالإيمان عامرا. ﴿ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحجرات: 8].
وأنت ناظر أيضا كيف كان توجيهه صلى الله عليه وسلم أبا لبابة، بخصوص عزمه على الانخلاع من ماله كله؛ توبة إلى الله تعالى، وأن الرشد لم يكن به كله، بل في حدود ثلثه؛ وذلك أجل ورثته سببا، وجمعا بين حديث آخر ورد.
فعن سعد بن أبي وقاص جَاءَنَا رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعُودُنِي مِن وجَعٍ اشْتَدَّ بي، زَمَنَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَقُلتُ: بَلَغَ بي ما تَرَى، وأَنَا ذُو مَالٍ، ولَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي، أفَأَتَصَدَّقُ بثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لا، قُلتُ: بالشَّطْرِ؟ قَالَ: لا، قُلتُ: الثُّلُثُ؟ قَالَ: الثُّلُثُ كَثِيرٌ، أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، ولَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بهَا وجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حتَّى ما تَجْعَلُ في فِي امْرَأَتِكَ[].[صحيح البخاري: 5668].
بيد أن لطيفة بين الأثر المروي عن الإمام الزهري، وحديث الإمام البخاري رحمهما الله تعالى، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان قد أقر أبا لبابة على التصدق بثلث ماله، ودون جملة: والثلث كثير، والواردة في حديث المتصدق المتبرع- سعد بن أبي وقاص- رضي الله تعالى عنه.
ودلك هذا على كم كان للذنب من خطورة، وحين كان من موافقته صلى الله عليه وسلم على التصدق، وبالثلث، وكجبر! في حين أنه كان قد استكثر ذلك الثلث، ولما كان عن ظهر صدقة، وكأجر! وبينهما فارق! وهذه من لفتات كلام سيد المرسلين وخاتم النبيين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
كما وأنك قد وقفت على عمل التصدق بثلث المال، وكيف كان سبب كفارة الذنوب التي أصابوها، وعلى عبارة الإمام الزهري رحمه الله تعالى.
ولأن هذه الآية تسلية لأصحاب الذنوب، وتسرية عن المبتلين بالمعاصي، فقد عدها بعضهم أرجى آية في القرآن المجيد، كما جاء عن حجاج بن أبي زينب قال: سمعت أبا عثمان يقول: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله تعالى: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا[].[تفسير القرطبي، القرطبي: ج ٨ / ٢٤٣].
وعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: "... أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر. فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قالا لي: هذه جنة عدن، وهذا منزلك،.... ، قالا أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح، فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فتجاوز الله عنهم "[].[صحيح البخاري: 7047].
والاعتراف: افتعال من الفعل عَرف. وهو للمبالغة في المعرفة، ولذلك صار عرف الناس جاريا أن الاعتراف ليس يخلو من اعتذار[].[تفسير التحرير والتنوير، ابن عاشور: 11/21].، ومنه كان اعترافهم وعلى وجه المبالغة دليلا ضافيا على صدق توبتهم، وبرهانا وافيا على حسن أوبتهم.
وجاء النظم الكريم بالعطف بالواو في قوله تعالى ﴿ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا﴾، وهو أوضح دلالة، وأفصح بيانا، وأقوم قيلا؛ لدلالته على تمام التخلل! بحيث يؤدي معنى إحالة أن يكون ذنب مستقلا بظهور؛ لأن الندم التالي قد أذابه، ولأن عزم عدم العود المفهوم قد أزاله! مما كان حاصله أن المخلوط به في كل واحد من الخلطين هو المخلوط في الآخر، وعندها فقل لي بالله عليك: هل يمكن ههنا- والحال كذلك- تحديد أين عمل صالح من آخر سيئ؟!
وأخرج ابن سعد عن الأسود بن قيس قال: لقي الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما يوماً حبيب بن مسلمة فقال: يا حبيب رب مسير لك في غير طاعة الله تعالى فقال: أما مسيري إلى أبيك فليس من ذلك قال: بلى ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائلة فلئن قام بك في دنياك فلقد قعد بك في دينك، ولو كنت إذ فعلت شراً فعلت خيراً، كان ذلك كما قال الله تعالى ﴿ خَلَطُواْ عَمَلاً صَـٰلِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً﴾، ولكنك كما قال الله تعالى: ﴿ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14].[].[ تفسير الآلوسي، الآلوسي: ١١ / ١٣].
وعن مطرف قال: إني لأستلقي من الليل على فراشي وأتدبر القرآن فأعرض أعمالي على أعمال أهل الجنة فإذا أعمالهم شديدة ﴿ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴾ [الذاريات:17] ﴿ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ﴾ [الفرقان:64] ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً ﴾ [الزمر:9] فلا أراني منهم فأعرض نفسي على هذه الآية ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلّينَ ﴾ إلى قوله سبحانه: ﴿ نُكَذّبُ بِيَوْمِ ٱلدّينِ ﴾ [المدثر: 42-46] فأرى القوم مكذبين فلا أراني فيهم فأمر بهذه الآية ﴿ وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ الخ وأرجو أن أكون أنا وأنتم يا إخوتاه منهم"[].[ تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر: ج / ٢٩٨].
وورود الفعل عسى؛ لإفادة الرجاء، وهي كناية عن استشراف وقوع المرجو، وقد وقع إطماعا للعباد في رحمة رب العباد، وتوبته عليهم. وإذ كانت ﴿ عَسَى ﴾ في حقه تعالى موجبة.
والآية كلها إيجاب باعث على الأمل والتفاؤل، وكرم الله تعالى لعبيده، وكان ختمها دلالة ضافية إضافية إلى ذلكم؛ حيث توجت بتأكيد أنه تعالى غفور رحيم، تعليلا لما سبق من توفيقه لهذا الجيل الكريم، بتقديم عوامل الندم و العزم على عدم عود إلى ارتكاب ذنب، أو اقتراف إثم ، دلك عليه سياق الآية، وما كان قد وقع منهم من ربط أنفسهم بسواري المسجد، لا يقربون طعاما ولا شرابا، حتى تأنس قلوبهم مما استشرفوه من توبة الرب التواب الرحيم ربهم الحق عليهم، وهو استشراف ينم عن مدى غير متناه لصدق الإيمان، ويدل على مدى غير متناه أيضا في إحسان الظن بالله تعالى ربهم الحق، وحقا قد كان ذاك، بدليل قوله تعالى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ .
فربطهم أنفسهم في سواري المسجد إذن كان قرينة على التأنيب، ودلالة على التوبة والندم والعزم على عدم العود! وحين قد علم الله تعالى صدقهم، فأنزل من لدنه قرآنا، يشفي صدورهم، وقلب كل مكلوم بما عصى وأثم، وها هو يؤنسه ربه تعالى ويسليه، بقوله تعالى الحق المبين، ومرة أخرى ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
فهلا عزمنا وكعزمهم على ألا نعود؟!