ما زلت أتذكر ما حدث بالتفصيل , كان الطابق السفلي لسكن الطالبات فارغ الا من غرفتين أحداهما خاصة بعمال تنظيف المبني والأخرى يقع بها مكتب مديرة السكن السيدة سراب . وهناك أيضا شيء لا نستطيع أن نطلق عليه غرفة فهو مثل مكتب استعلامات السكن , تتواجد به دائما احدي الطالبات في السكن لمساعدة الطالبات او القادمين أو تقديم العون أو توصيل المعلومات , لاحقا سأدخل هذه الغرفة كثيرا , لكن ليس كطالبة بها ولكن لأجلس مع إحدى صديقاتي وهي تعمل في الاستعلامات , معروف فمن تعمل في الاستعلامات يتم إعفائها من دفع رسوم السكن , امتياز جيد , آه نسيت توجد أيضا طاولة كبيرة ومقعدان كبيران للجلوس .
بعدما نظرت حولي وكان الظلام قد خيم علي المكان وقد ضاعف الخوف والوحشة بداخلي , وجدت إحدى الطالبات تجلس علي واحد من المقاعد تضع هاتفها في الشحن وعينيها وعقلها في مكان ما في عالم آخر بداخل شاشة التليفون المحمول , كنت أحتج لشحن هاتفي بشدة فبطاريتي قد انتهت , لكن الوصلات الكهربائية هنا في قبرص تختلف كثيرا عن مصر , فلابد لشاحني من وصلة حتي أستطيع شحنه , ففكرت أن اسأل الفتاة , فحاولت أخبارها بالإنجليزية , لكن اتضح أنها فتاة تركية لا تفهم الإنجليزية لكنها فهمت من وضعي وحالي المزرى ما اريده وبأنني جديدة هنا , فقالت لي ستعطيني الشاحن لبعض الوقت , فشكرتها كثيرا وشحنت هاتفي , تكلمت مع عائلتي وبكيت كثيرا , أخبرني والدي أن علي الرجوع , لا داعي لبقائي وأنه لا بأس , أخبرته وماذا عن الأموال التي أنفقتها حتي الآن , كيف سأستطيع تسديدها , كان هذا هو كل ما يهمني في ذلك الوقت , الدين الذي أجبرتني ظروفي علي قبوله , فلقد أخترت الحل السيء تجنباً للأسوأ , أخبرني أبي أنه سيعيد النقود الي عمي وعلي الا اقلق بشان هذا , فقط لأذهب وأحجز تذكرة وصباح اليوم التالي أعود لمصر , انتهت مكالمتنا علي هذا , وشكرت الفتاه علي مساعدتها , لكنني تحدثت اليها هذه المرة ولأول مره في حياتي باللغة التركية , غريب أليس كذلك لقد قضيت قرابة العامين استمع وأتعلم اللغة التركية عن طريق الإنترنت كهواية , رغبة في زيارة تركيا يوما ما كحلم مستحيل حدوثه , لكن القدر شيء عجيب للغاية , أنني هنا في قبرص التركية .
حينما سمعتني الفتاة أتحدث التركية صعقت للغاية بانني أعرف اللغة بالغم من انني متأكدة مقارنة بكونها أول مرة اتلفظ بها باللغة التي لم أمارسها يوما , أتصور أنني كنت مضحكة للغاية , لكن في الحقيقة الفتاة كانت طيبة للغاية , أخبرتني أن أسمها دولوناي وهي من تركيا وتدرس هنا في سنتها الأخيرة , تدرس لتصبح معلمة , تحدثنا كثيرا , في الحقيقة لقد كنت مستمتعة بالاستماع اليها , فكانت تلك المرة الأولي التي أشاهد بها مسلسلاً تركيا لكن بث مباشر كما يقولون .
أخبرتها عن نفسي وأن هذا أول يوم لي , اقترحت علي أن نذهب للتجول لأتعرف علي المدينة وتشتري لي محول كهربائي لشاحن هاتفي حتي أستطيع شحنه متي أريد , وافقت علي الفور فقد أنقذتني من الوحدة والخوف , ذهبنا للمشي وارتني معالم المدينة كانت مدينة جميلة هادئة للغاية وصغيرة , تحدثنا كثيرا وفتحت لها قلبي واخبرتها أنني هنا مرغمة , وأنني محملة بالديون فالمال الذي بحوزتي ليس لي بل أنه قرض من عمي , وكم أكره أن أقترض منه , وأنني لن أستطيع الاستمرار هكذا , أخبرتها عن ما اجبرني علي قبوله وأنني لو كنت شجاعة ما كنت وصلت لهنا , بل كنت حاربت في بلدي .
كنت تحليت بالقليل من الشجاعة حتي اقول لا , حكيت لها كل القصة من البداية , لكن ليست كل التفاصيل , فأحيانا لا نستطيع سوي أن نخبئ بعض الحقائق حرصا منا علي ألا نشوه من فيها , وبعد الكثير والكثير من الأحاديث التي كنت أحتاجها وبشدة في تلك الليلة , اخبرتني أنه إذا كانت العودة هي كل ما أريده حقا فعلي بذلك , لأحجز طائرتي في الصباح وأعود , ولأتحلى بالشجاعة وأخبرهم أنني لست بحاجة مساعدة لا أريدها وأن ما فعلوه ليس من العدل ولا من الرحمة , ليس من حق اي إنسان أن يجبر آخر علي المعاناة , وأنني لست مجبرة علي تحمل دين لا اريده , لكنها أخبرتني أن علي التفكير قليلا في مسألة العودة , فالتحمل والاستمرار هنا من الممكن أن يكونوا شيء جيد وليس بذلك السوء , خصوصا بعد حصولي علي درجة الماجستير التي جئت من أجلها , فهي لم تكن تعلم أن لدي سبب آخر بالقدوم لهنا , سبب أقوي وأقسي بكثير .