إسلام خالد بن الوليد

ما من ماكر بدين الله، وبعباد الله تعالى، إلا وتجد في قلبه خورا ووهنا، يعبر عن ذلك بصلف يدفعه إلى التجني أكثر، وإلى التهور أكبر؛ تعبيرا عن مكنون غيظ، كان سببه ذلكم الشعور الباطني بالانهزام.

إن هذا الشعور بحد ذاته يحدث في النفس انكسارا وخوارا وألما وحسرة وضغطا نفسيا، يلاحق ظالما ليله ونهاره، ولا يكاد يفارقه، بل يظل جاثما بركبتيه على صدره، حاكيا معنى الهزيمة في أصدق معانيها.

وهذا هو شؤم المعصية، الذي يذل صاحبه ويكسره ويخطمه، وإن تبدى في زي من قال﴿ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾[القصص:38].

ذلكم وإن مثل هذا الشعور، وحين يتلبس صاحبه، لتراه يمعن، ويظل يمعن، ليتشفى ليشفى، وما هو بمشفى؛ وصدق الإمام الحسن البصري رحمه الله حين قال: إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.

وأنت إذ ترقب، وعن بعد، فعل أسلافهم على مدار التاريخ، وحين يعيشون عيشة التربص والخيبة والخوف المسيطر، الى حين أن يحل الله بهم أمره، أو سياجات من بعدها سياجات، وهكذا في مشهد ربما لو عرض على عاقل أن يكون مثلهم أو في مكانهم لأبى! ولأن عيشة الأمن لا عدل لها!!! وكما قال تعالى﴿ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾[الأنعام:82].

وهذا الذي سبق كان برهانه العملي أيضاً ذلكم الشعور، الذي كان قد سيطر على خالد بن الوليد، رغم ما كان عليه من مضرب المثل الأعلى في الفروسية والقتال والفتك بالصالحين، في كل من بدر وأحد والخندق، وها هو إذ يقول يوما وحين أراد الله تعالى له وبه خيراً: لما أراد الله بي ما أراد من الخير قذف في قلبي الإسلام، وحضرني رشدي، فقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد ﷺ، فليس في موطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيء، وأن محمدا سيظهر![1].[تاريخ الإسلام، الذهبي: ج ٢/٤٧٤].

قال خالد: فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية، خرجت في خيل المشركين، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بعسفان، فأقمت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر أمامنا، فهممنا أن نغير عليه. ثم لم يعزم لنا، وكانت فيه خيرة، فاطلع على ما في أنفسنا من الهموم، فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف. فوقع ذلك منا موقعا، وقلت: الرجل ممنوع.

وليس يمكن ألا تمر على خالد ما مر على غيره من إرهاصات الخير والهدى وأعلام النبوة المختلفة، وطيلة عمر دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم،  وبل يقينا قد بلغه شيء من ذلك، وليس الآن وحسب، ولكنها إرادته تعالى، وحين يريد بعبد خيرا، ولأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن سبحانه وتعالى، ويقلبها حيث يشاء، وكما جاء عن عائشةَ أنَّ رسولَ اللهِ كان يُكْثِرُ أن يقولَ: يا مُثَبِّتَ القلوبِ ثبِّتْ قلبي على دينِكَ قلتُ: يا رسولَ اللهِ ، إِنَّكَ تُكْثِرُ أن تدعوَ بهذا الدعاءِ فهل تخافُ؟ قال نعم وما يُؤَمِنِّي أيْ عائشةُ وقلوبُ العبادِ بينَ إصبعينِ من أصابعِ الرحمنِ ؟[2].[ تخريج كتاب السنة، الألباني: 233 ]. خلاصة حكم المحدث: صحيح.

وهذا الذي حدث لخالد؛ ليقف بنفسه على كل خطوة يخطوها؛ لتكون له منها عبرة وعظة واهتمام، يؤدي به كل هذا إلى أن تتفتح مغاليق القلوب، ولينهض عبد من كبوة طالت، إلى يقظة يكون فيها يدا لهذا الدين، وبعد أن يدا عليه!

وهذا الذي نفيد منه أن يتوجه العباد إلى الله تعالى ربهم الحق سبحانه، أن يأخذ بأيديهم إلى بَرِ الهدى والتقوى الصلاح والبِرِ والمغفرة والتوبة النصوح. وذلك حين يعزم خالد التعرض لنبينا صلى الله عليه وسلم، وليرده الله تعالى، وليحدث نفسه بكلماته الخالدة: فهممنا أن نغير عليه. ثم لم يعزم لنا، وكانت فيه خيرة، فاطلع على ما في أنفسنا من الهموم، فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف. فوقع ذلك منا موقعا، وقلت: الرجل ممنوع. فافترقنا، وعدل عن سنن خيلنا، وأخذت ذات اليمين.

قال خالد: فلما صالح قريشا قلت: أي شيء بقي أين المذهب إلى النجاشي فقد اتبع محمدا، وأصحابه عنده آمنون. فأخرج إلى هرقل، فأخرج من ديني إلى النصرانية واليهودية، فأقيم مع عجم تابعا، مع عنت ذلك، أو أقيم في داري فيمن بقي، فأنا على ذلك، إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، فتغيبت. 

وهذه مراجعات النفس، وهي تنبض بالحياة الجديدة، وكما نشتم منها قرب مجيء فجر الإيمان لهذا ال(خالد بن الوليد)، وبعد مرور سنين عددا، كان يناصب الدعوة الجديدة فيها عداء مريرا. ولكنه لطفه تعالى، وحين يريد بعبد من عبيده خيرا، وليتوب عليه، وبعد أن تاب وآمن وعمل عملا صالحا، وكما قال تعالى ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾[الفرقان: 70].

قال خالد: وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية. فطلبني فلم يجدني، فكتب إلي كتابا فإذا فيه: أما بعد فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام. وعقلك عقلك، ومثل الإسلام يجهله أحد قد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أين خالد فقلت: يأتي الله به. فقال: ما مثله جهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين كان خيرا له ولقدمناه على غيره. فاستدرك يا أخي ما قد فاتك. فلما جاءني كتابه، نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإسلام.

وهذه رسائل السماء، تهل على خالد منهمرة ليصحو، وحين سخر الله تعالى له أخاه الوليد بن الوليد، داعية خير ورشد وبر، وهذا عنوان أهمية الصاحب، وهذا برهان أهمية الجليس الصالح، ليأخذ بيد أخيه إلى مشارف البر والتقوى أيضا، وهذا يفيدنا عظم فائدة عض على أخ في الله يعين، وهذا أيضا يفيدنا نفرة عن جليس السوء، وحين كان لكل من الجليسين أثره : إن إيجابا حال كونه جليسا صالحا، وإن سلبا وحين كان جليس سوء، وكما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ والجَلِيسِ السَّوْءِ، كَمَثَلِ صاحِبِ المِسْكِ وكِيرِ الحَدَّادِ؛ لا يَعْدَمُكَ مِن صاحِبِ المِسْكِ إمَّا تَشْتَرِيهِ أوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وكِيرُ الحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أوْ ثَوْبَكَ، أوْ تَجِدُ منه رِيحًا خَبِيثَةً[3].[صحيح البخاري: 2101].

وقال خالد: وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة جدبة، فخرجت إلى بلاد خضراء واسعة قلت: إن هذه لرؤيا. فلما قدمنا المدينة قلت: لأذكرنها لأبي بكر، فذكرتها، فقال: هو مخرجك الذي هداك الله للإسلام، والضيق هو الشرك.

وهذا أيضا شأن الرؤيا الصالحة، إما يراه العبد الصالح، أو ما سوف يؤول إليه أمره بعد- وإن جاز التعبير- وإما أن ترى له، وهي مما يكون له أثر رباني فعال في سوق العبد إلى مشارف الخير، نائيا بنفسه عن مهاوي الردى، وخاصة حين يقصصها على خبير محب! وإذ وكما قصها خالد على خبير بالرؤى ومحنك بالواقع ومحب الخير لكل أحد، ولربما كان خالد في مقدمتهم وإذ يحال عدم معرفته برغبة نبينا صلى الله عليه وسلم في إسلام هذا ال( خالد )، وهذا فضلا عن محبة طبعية في قلب كل مسلم لهدى الناس أجمعين؛ وكيما يدخلوا الجنة ربهم جميعهم بسلام.

فعن عبدالله بن عباس، كَشَفَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ السِّتَارَةَ والنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أبِي بَكْرٍ، فَقالَ: أيُّها النَّاسُ، إنَّه لَمْ يَبْقَ مِن مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا المُسْلِمُ، أوْ تُرَى له، ألَا وإنِّي نُهِيتُ أنْ أقْرَأَ القُرْآنَ رَاكِعًا، أوْ سَاجِدًا، فأمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فيه الرَّبَّ عزَّ وجلَّ، وأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا في الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ. [].[صحيح مسلم: 479].

قال خالد: فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: من أصاحب إلى محمد فلقيت صفوان ابن أمية. فقلت يا أبا وهب. أما ترى إلى ما نحن فيه، إنما كنا كأضراس، وقد ظهر محمد على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمد فاتبعناه فإن شرفه لنا شرف. فأبى أشد الإباء وقال: لو لم يبق غيري ما اتبعته أبدا. فافترقنا وقت: هذا رجل قتل أخوه ببدر. فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل ما قلت لصفوان، فقال لي مثل ما قال صفوان. قلت: فاكتم ذكر ما قلت لك. وذلك قبل أن يسلما!

وهذا أيضا فعل قرناء السوء وحين ينفضهم العبد عن نفسه. وكصفوان ابن أمية وعكرمة بن أبي جهل.

وهذا أيضا فعل نفر من الناس أبعدهم ربهم عن الخير؛ ولأنهم أصروا على الغوى، وحين استدبروا الرشاد! وما كان الله تعالى ليسمع قوما كان ذا وصفهم، وها هم قد أصموا عنه آذانهم، وأعموا عنه أبصارهم، واستغلقوا عليه قلوبهم! ولهذا جاء قوله تعالى مبينا مثل صنيعه هذا بقوم قال الله تعالى فيهم﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾[النساء:155].

هذا، وقد من الله تعالى على كل من صفوان وعكرمة بالإسلام الحنيف، وحتى قال صفوان يوم حنين: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطاني، وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى صار أحبَّ الناس إليَّ!! وهذا أن فعل العطاء والمنح في تأليف قلوب الناس على الحق، إسلامهم ما أمكن أو تقليل عدائهم ما أمكن أيضا. وحتى أسلم عكرمة بن أبي جهل، ومن بعد شفاعة امرأته له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحين كان منه صلى الله عليه وسلم أن قال فرحا بإسلامه، ورغم تاريخه وأبيه! وقد غض عن ذلك طرفا! رحمة اتصف بها، ورأفة نعت بها أيضا:  "لاَ تَسْأَلُنِي الْيَوْمَ شَيْئًا أُعْطِيهِ أَحَدًا إِلاَّ أَعْطَيْتُهُ لَكَ". فلم يطلب عكرمة بن أبي جهل مالاً أو سلطانًا أو إمارة، وإنما طلب عكرمة المغفرة، فقال: فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها، أو مسير وضعت فيه، أو مقام لقيتك فيه، أو كلام قلته في وجهك، أو أنت غائب عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ كُلَّ عَدَاوَةٍ عَادَانِيهَا، وَكُلَّ مَسِيرٍ سَارَ فِيهِ إِلَى مَوْضِعٍ يُرِيدُ فِي هَذَا الْمَسِيرِ إِطْفَاءَ نُورِكَ، فَاغْفِرْ لَهُ مَا نَالَ مِنِّي مِنْ عِرْضٍ فِي وَجْهِي، أَوْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهُ". فقال عكرمة: رضيت يا رسول الله. ثم قال -وهو صادق-: لا أدع نفقة كنت أنفقها في صدٍّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً كنت أقاتل في صد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله[].[جمع الجوامع، الجامع الكبير في الحديث والجامع الصغير وزوائده، السيوطي‎: ج14/519].

وعلى كل فهذان وقد أصبحا صحابيين، وقد كان كل منهما له طلبه، والحاصل منهما أن يكفر الله تعالى عن كل منهما ما قد سلف، وهذه هي الغاية، والله تعال هو التواب الرحيم.

قال خالد: وخرجت إلى منزلي، فأمرت براحلتي أن تخرج إلي، فخرجت بها إلى أن ألقى عثمان بن طلحة. فقلت: إن هذا لي صديق، فذكرت له، فقال: نعم، إني عمدت اليوم، وإني أريد أن أغدو، وهذه راحلتي بفخ مناخة، قال: فاتعدت أنا وهو بيأجج، وأدلجنا سحرا، فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج، فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة. فنجد عمرو بن العاص بها، فقال: مرحبا بالقوم. فقلنا: وبك. فذكر الحديث. وقال: كان قدومنا في صفر سنة ثمان. فوالله ما كان رسول اله صلى الله عليه وسلم في يوم أسلمت يعدل بي أحدا من أصحابه فيما حزبه[].[تاريخ الإسلام، الذهبي: ج ٢/٤٧٤].

وكان من حاصل ذلك أن أراد ربه به خيراً، وكما أراد لعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة ما أراد لهم من خير، ليسوقهم سوقا إلى نبي الرحمة ليفتح لهم آفاق التوبة، وحين جاؤوا حاطين برحال توبتهم عنده!!!

وإذ تحول خالد من عدو لدود إلى ولي صدوق وحين ربط الله تعالى على قلبه ليتحول إلى سيف من سيوف الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه.

فعن أبي هريرة: نزلنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ منزلًا فجعل الناسُ يمرون فيقولُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ من هذا يا أبا هريرةَ فأقولُ فلانٌ فيقولُ نعمَ عبدُ اللهِ هذا فيقولُ من هذا فأقولُ فلانٌ فيقولُ بئسَ عبدُ اللهِ هذا حتى مرَّ خالدُ بنُ الوليدِ فقال مَن هذا قلت هذا خالدُ بنُ الوليدِ قال نعمَ عبدُ اللهِ خالدُ بنُ الوليدِ سيفٌ من سيوفِ اللهِ[].[صحيح الترمذي، الألباني: 3846]. التخريج: أخرجه من طرق الترمذي (3846) واللفظ له، وابن أبي شيبة (32929) باختلاف يسير، والبزار (8720) مختصراً

هذا هو خالد بن الوليد بن المغيرة!

وقد كان أبوه صنديدا عدوا لدودا لهذا الدين الجديد يومه ذلك، وإذ يخرج من هذا البيت سيف من سيوف الله تعالى، في بادرة تعلم الدعاة ألا يقنطوا، وأن يأتي يوم تنصر دعوتهم، ومن داخل بيوت ألد أعدائها، وما عليهم حيال وضع كهذا إلا الصبر، كما صبر نبيهم ﷺ، وهم إذ يحملون لواء دعوتهم، ولا يعيقهم فعل الوليد، أو فعل غير الوليد، لأنه يمكن أن يأتي يوم يخرج فيه من بيت الوليد، أو بيت غير الوليد، من يدك حصنا بناه أبوه!!!

وهذا هو خالد بن الوليد نفسه، وحين طال به كفره، وعداؤه كأبيه!!! وليسلم تائبا، بعد خيبر، ولتكون معركة مؤتة أول منازلة له في ظل الإسلام الحنيف، وليسميه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيفا من سيوف الله تعالى!! وفي بادرة هي الأخرى أعظم، وحين طويت صفحة كفر وعداء طالا، وبهكذا إعلان توبة نصوح، برهان رحمة الرحمن، ودليل لطف اللطيف تعالى، وأن أبواب توبة العبيد مشرعة، ومن حيث لم يحشرج عبد!!!

وهذا هو خالد بن الوليد، وحين يتسلم راية يوم مؤتة، وليقرر قرارا ميدانيا، كان حقه أن يدرس في أعرق معاهد وكليات العلوم العسكرية، وهي ما يمكن تسميته ب (نظرية تغيير التكتيك العسكري الميداني الآني)، وبأقل خسائر ممكنة، حتى لا يتأثر جنده، وبأعظم مكاسب ممكنة، وكيما يرفع من قيمة جنده أيضاً. وحتى يرى الخصم  برهان هزيمته قد حل، وحين تسمع أذناه ما لم يقله بَعْدُ، أن نصر المسلمين عليهم، وها هو إذ رأته العيون قادما!!!

ولأنه أصدر قراره العسكري التاريخي، بتغييرات ميدانية سريعة، تتطلبها ساحات الوغى، وحين أعاد ترتيب الصفوف في الجيش، وقد جعل مقدمته ساقته، وساقته مقدمته، وميمنته ميسرته، و ميسرته ميمنته. وعلى مرأى من جنوده، وحتى أعظم ذلك في مخيلة المقاتلين!!!

وإذ كان من قرار خالد آنف الذكر أنه فعل بالخصم فعله، فأنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيئتهم، وقالوا: قد جاءهم مدد، فرعبوا وانكشفوا منهزمين[].[تاريخ الإسلام، الذهبي: ج ٢/٤٨٦]! وهذه هي العبقرية العسكرية!

وهذا هو خالد بن الوليد، وإذ يتلقى تسعة أسياف في الله تعالى، ولايقعده ذلكم عن قيادة كتائب النضال والجهاد، ولأنه جهاد ونضال وقتال كان لله، ومازلنا نتدارس فعل هذه الأجيال، ونغترف من فنونها، يوما من بعد يوم آخر!!!

وهذا هو خالد بن الوليد، وإذ قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما أخذ خالد بن الوليد الراية قال رسول الله ﷺ: «الآن حمي الوطيس».

قال الواقدي: حدثني عبد الله بن الحارث بن الفضل، عن أبيه قال: لما أخذ خالد بن الوليد الراية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن حمي الوطيس[].[البداية والنهاية، ابن كثير: ج ٤/٢٨٢].

وهذا هو الذي حدث، ويوم أن غير خالد رضي الله تعالى عنه تكتيك العمل القتالي الميداني، وكما سبق بيانه آنفا.