أن الكلام في هذا الباب يتعلق بأركان خمسة: الاستعاذة، والمستعيذ، والمستعاذ به، والمستعاذ منه، والشيء الذي لأجله تحصل الاستعاذة.

الركن الأول: في الاستعاذة، وفيه مسائل: - تفسير الاستعاذة:

المسألة الأولى: في تفسير قولنا: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " بحسب اللغة فنقول: قوله: " أعوذ " مشتق من العوذ، وله معنيان: أحدهما: الالتجاء والاستجارة، والثاني: الالتصاق يقال: " أطيب اللحم عوذه " وهو ما التصق منه بالعظم، فعلى الوجه الأول معنى قوله أعوذ بالله أي: ألتجئ إلى رحمة الله تعالى وعصمته، وعلى الوجه الثاني معناه التصق نفسي بفضل الله وبرحمته.

وأما الشيطان ففيه قولان: الأول: أنه مشتق من الشطن، وهو البعد، يقال: شطن دارك أي بعد، فلا جرم سمي كل متمرد من جن وإنس ودابة شيطانا لبعده من الرشاد والسداد، قال الله تعالى: * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن) * (الأنعام: 112) فجعل من الإنس شياطين، وركب عمر برذونا فطفق يتبختر به فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبخترا فنزل عنه وقال: ما حملتموني إلا على شيطان. والقول الثاني: أن الشيطان مأخوذ من قوله شاط يشيط إذا بطل، ولما كان كل متمرد كالباطل في نفسه بسبب كونه مبطلا لوجوه مصالح نفسه سمي شيطانا.

وأما الرجيم فمعناه المرجوم، فهو فعيل بمعنى مفعول. كقولهم: كف خضيب أي مخضوب ورجل لعين، أي ملعون، ثم في كونه مرجوما وجهان: الأول: أن كونه مرجوما كونه ملعونا من قبل الله تعالى، قال الله تعالى: * (فأخرج منها فإنك رجيم) * (الحجر: 34) واللعن يسمى رجما، وحكى الله تعالى عن والد إبراهيم عليه السلام أنه قال له: * (لئن لم تنته لأرجمنك) * (مريم: 46) قيل عنى به الرجم بالقول، وحكى الله تعالى عن قوم نوح أنهم قالوا: * (لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين) * (الشعراء: 116) وفي سورة يس (لئن لم تنتهوا لنرجمنكم) والوجه الثاني: أن الشيطان إنما وصف بكونه مرجوما لأنه تعالى أمر الملائكة برمي الشياطين بالشهب والثواقب طردا لهم من السماوات، ثم وصف بذلك كل شرير متمرد.

وأما قوله: * (إن الله هو السميع العليم) * ففيه وجهان: الأول: أن الغرض من الاستعاذة الاحتراز من شر الوسوسة ومعلوم أن الوسوسة كأنها حروف خفية في قلب الإنسان، ولا يطلع عليها أحد، فكأن العبد يقول: يا من هو على هذه الصفة التي يسمع بها كل مسموع، ويعلم كل سر خفي أنت تسمع وسوسة الشيطان وتعلم غرضه فيها، وأنت القادر على دفعها عني، فادفعها عني بفضلك، فلهذا السبب كان ذكر السميع العليم أولى بهذا الموضع من سائر الأذكار،: الثاني: أنه إنما تعين هذا الذكر بهذا الموضع اقتداء بلفظ القرآن، وهو قوله تعالى: * (وإما ينزعنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) * وقال في حم السجدة: * (إنه هو السميع العليم) *.

المسألة الثانية: في البحث العقلي عن ماهية الاستعاذة: اعلم أن الاستعاذة لا تتم إلا بعلم وحال وعمل، أما العلم فهو كون العبد عالما بكونه عاجزا عن جلب المنافع الدينية والدنيوية وعن دفع جميع المضار الدينية والدنيوية، وأن الله تعالى قادر على إيجاد جميع المنافع الدينية والدنيوية وعلى دفع جميع المضار الدينية والدنيوية قدرة لا يقدر أحد سواه على دفعها عنه. فإذا حصل هذا العلم في القلب تولد عن هذا العلم حصول حالة في القلب، وهي انكسار وتواضع ويعبر عن تلك الحالة بالتضرع إلى الله تعالى والخضوع له، ثم إن حصول تلك الحالة في القلب يوجب حصول صفة أخرى في القلب وصفة في اللسان، أما الصفة الحاصلة في القلب فهي أن يصير العبد مريدا لأن يصونه الله تعالى عن الآفات ويخصه بإفاضة الخيرات والحسنات وأما الصفة التي في اللسان فهي أن يصير العبد طالبا لهذا المعنى بلسانه من الله تعالى، وذلك الطلب هو الاستعاذة، وهو قوله: " أعوذ بالله " إذا عرفت ما ذكرنا يظهر لك أن الركن الأعظم في الاستعاذة هو علمه بالله، وعلمه بنفسه، أما علمه بالله فهو أن يعلم كونه سبحانه وتعالى عالما بجميع المعلومات، فإنه لو لم يكن الأمر كذلك لجاز أن لا يكون الله عالما به ولا بأحواله، فعلى هذا التقدير تكون الاستعاذة به عبثا، ولا بد وأن يعلم كونه قادرا على جميع الممكنات وإلا فربما كان عاجزا عن تحصيل مراد البعد، ولا بد أن يعلم أيضا كونه جوادا مطلقا، إذ لو كان البخل عليه جائزا لما كان في الاستعاذة فائدة، ولا بد أيضا وأن يعلم أنه لا يقدر أحد سوى الله تعالى على أن يعينه على مقاصده، إذ لو جاز أن يكون غير الله يعينه على مقاصده لم تكن الرغبة قوية في الاستعاذة بالله، وذلك لا يتم إلا بالتوحيد المطلق وأعني بالتوحيد المطلق أن يعلم أن مدبر العالم واحد، وأن يعلم أيضا أن العبد غير مستقل بأفعال نفسه، إذ لو كان مستقلا بأفعال نفسه لم يكن في الاستعاذة بالغير فائدة، فثبت بما ذكرنا أن العبد ما لم يعرف عزة الربوبية وذلة العبودية لا يصح منه أن يقول:

(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ومن الناس من يقول: لا حاجة في هذا الذكر إلى العلم بهذه المقدمات، بل الإنسان إذا جوز كون الأمر كذلك حسن منه أن يقول: أعوذ بالله على سبيل الإجمال، وهذا ضعيف جدا لأن إبراهيم عليه السلام عاب أباه في قوله: * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا) * (مريم: 42) فبتقدير أن لا يكون الإله عالما بكل المعلومات قادرا على جميع المقدورات كان سؤاله سؤالا لمن لا يسمع ولا يبصر، وكان داخلا تحت ما جعله إبراهيم عليه السلام عيبا على أبيه، وأما علم العبد بحال نفسه فلا بد وأن يعلم عجزه وقصوره عن رعاية مصالح نفسه على سبيل التمام، وأن يعلم أيضا أنه بتقدير أن يعلم تلك المصالح بحسب الكيفية والكمية لكنه لا يمكنه تحصيلها عند عدمها ولا إبقاؤها عند وجودها، إذا عرفت هذا فنقول: إنه إذا حصلت هذه العلوم في قلب العبد وصار مشاهدا لها متيقنا فيها وجب أن يحصل في قلبه تلك الحالة المسماة بالانكسار والخضوع، وحينئذ يحصل في قلبه الطلب، وفي لسانه اللفظ الدال على ذلك الطلب، وذلك هو قوله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) والذي يدل على كون الإنسان عاجزا عن تحصيل مصالح نفسه في الدنيا والآخرة أن الصادر عن الإنسان إما العمل وإما العلم، وهو في كلا البابين في الحقيقة في غاية العجز، أما العلم فما أشد الحاجة في تحصيله إلى الاستعاذة بالله، وفي الاحتراز عن حصول ضده إلى الاستعاذة بالله ويدل عليه وجوه: - الحجة الأولى: أنا كم رأينا من الأكياس المحققين بقوا في شبهة واحدة طول عمرهم، ولم يعرفوا الجواب عنها، بل أصروا عليها وظنوها علما يقينيا وبرهانا جليا، ثم بعد انقضاء أعمارهم جاء بعدهم من تنبه لوجه الغلط فيها وأظهر للناس وجه فسادها، وإذا جاز ذلك على بعض الناس جاز على الكل مثله، ولولا هذا السبب لما وقع بين أهل العلم اختلاف في الأديان والمذاهب، وإذا كان الأمر كذلك فلولا إعانة الله وفضله وإرشاده وإلا فمن ذا الذي يتخلص بسفينة فكره من أمواج الضلالات ودياجي الظلمات؟.

الحجة الثانية: أن كل أحد إنما يقصد أن يحصل له الدين الحق والاعتقاد الصحيح، وإن أحدا لا يرضى لنفسه بالجهل والكفر، فلو كان الأمر بحسب سعيه وإرادته لوجب كون الكل محقين صادقين، وحيث لم يكن الأمر كذلك بل نجد المحقين في جنب المبطلين كالشعرة البيضاء في جلد ثور أسود علمنا أنه لا خلاص من ظلمات الضلالات إلا بإعانة إله الأرض والسماوات.

الحجة الثالثة:

ان القضية التي توقف الإنسان في صحتها وفسادها فإنه لا سبيل له إلى الجزم بها إلا إذا دخل فيما بينهما الحد الأوسط فنقول: ذلك الحد الأوسط إن كان حاضرا في عقله كان القياس منعقدا والنتيجة لازمة. فحينئذ لا يكون العقل متوقفا في تلك القضية بل يكون جاز ما بها، وقد فرضناه متوقفا فيها، هذا خلف، وأما إن قلنا إن ذلك الحد الأوسط غير حاضر في عقله فهل يمكنه طلبه؟ أو لا يمكنه طلبه، والأول باطل، لأنه إن كان لا يعرفه بعينه فكيف يطلبه؟ لأن طلب الشيء بعينه إنما يمكن بعد الشعور به، وإن كان يعرفه بعينه فالعلم به حاضر في ذهنه فكيف يطلب تحصيل الحاصل؟ وأما إن كان لا يمكنه طلبه فحينئذ يكون عاجزا عن تحصيل الطريق الذي يتخلص به من ذلك التوقف ويخرج من ظلمة تلك الحيرة، وهذا يدل على كون العبد في غاية الحيرة والدهشة.

الحجة الرابعة: أنه تعالى قال لرسوله عليه الصلاة والسلام: * (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين) * (المؤمنون: 97) فهذه الاستعاذة مطلقة غير مقيدة بحالة مخصوصة، فهذا بيان كمال عجز العبد عن تحصيل العقائد والعلوم، وأما عجز العبد عن الأعمال الظاهرة التي يجر بها النفع إلى نفسه ويدفع بها الضرر عن نفسه فهذا أيضا كذلك ويدل عليه وجوه: الأول: أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن هذا البدن يشبه الجحيم وانكشف لهم أنه جلس على باب هذا الجحيم تسعة عشر نوعا من الزبانية، وهي الحواس الخمس الظاهرة والحواس الخمس الباطنة، والشهوة، والغضب، والقوى الطبيعية السبع، وكل واحد من هذه التسعة عشر فهو واحد بحسب الجنس، إلا أنه يدخل تحت كل واحد منها أعداد لا نهاية لها بحسب الشخص والعدد، واعتبر ذلك بالقوة الباصرة، فإن الأشياء التي تقوي القوة الباصرة على إدراكها أمور غير متناهية، ويحصل من إبصار كل واحد منها أثر خاص في القلب، وذلك الأثر يجر القلب من أوج عالم الروحانيات إلى حضيض عالم الجسمانيات، وإذا عرفت هذا ظهر أن مع كثرة هذه العوائق والعلائق أنه لا خلاص للقلب من هذه الظلمات إلا بإعانة الله تعالى وإغاثته، ولما ثبت أنه لا نهاية لجهات نقصانات العبد ولا نهاية لكمال رحمة الله وقدرته وحكمته ثبت أن الاستعاذة بالله واجبة في كل الأوقات فلهذا السبب يجب علينا في أول كل قول وعمل ومبدأ كل لفظة ولحظة أن نقول (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

الحجة الخامسة: أن اللذات الحاصلة في هذه الحياة العاجلة قسمان: أحدهما: اللذات الحسية. والثاني: اللذات الخيالية. وهي لذة الرياسة، وفي كل واحد من هذين القسمين الإنسان إذا لم يمكن يمارس تحصيل تلك اللذات ولم يزاولها لم يكن له شعور بها، وإذ كان عديم الشعور

بها كان قليل الرغبة فيها، ثم إذا مارسها ووقف عليها التذ بها، وإذا حصل الالتذاذ بها قويت رغبته فيها، وكلما اجتهد الإنسان حتى وصل إلى مقام آخر في تحصيل اللذات والطيبات وصل في شدة الرغبة وقوة الحرص إلى مقام آخر أعلى مما كان قبل ذلك، فالحاصل أن الإنسان كلما كان أكثر فوزا بالمطالب كان أعظم حرصا وأشد رغبة في تحصيل الزائد عليها، وإذا كان لا نهاية لمراتب الكمالات فكذلك لا نهاية لدرجات الحرص، وكما أنه لا يمكن تحصيل الكمالات التي لا نهاية لها فكذلك لا يمكن إزالة ألم الشوق والحرص عن القلب، فثبت أن هذا مرض لا قدرة للعبد على علاجه، ووجب الرجوع فيه إلى الرحيم الكريم الناصر لعباده فيقال: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

الحجة السادسة: في تقرير ما ذكرناه قوله تعالى: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * وقوله: * (واستعينوا بالصبر والصلاة) * (البقرة: 45) وقول موسى لقومه * (استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) * (الأعراف: 128) وفي بعض الكتب الآلهية إن الله تعالى يقول: " وعزتي وجلالي، لأقطعن أمل كل مؤمل غيري باليأس، ولألبسنه ثوب المذلة عند الناس، ولأخيبنه من قربي، ولأبعدنه من وصلي، ولأجعلنه متفكرا حيران يؤمل غيري في الشدائد والشدائد بيدي، وأنا الحي القيوم، ويرجو غيري ويطرق بالفكر أبواب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني ". مذهب الجبرية في الاستعاذة:

المسألة الثالثة: في أن الاستعاذة كيف تصح على مذهب أهل الجبر ومذهب القدرية قالت المعتزلة: قوله: (أعوذ بالله) يبطل القول بالجبر من وجوه: - الأول: أن قوله: (أعوذ بالله) اعتراف بكون العبد فاعلا لتلك الاستعاذة، ولو كان خالق الأعمال هو الله تعالى لامتنع كون العبد فاعلا لأن تحصيل الحاصل محال، وأيضا فإذا خلقه الله في العبد امتنع دفعه، وإذا لم يخلقه الله فيه امتنع تحصيله. فثبت أن قوله: (أعوذ بالله) اعتراف بكون العبد موجدا لأفعال نفسه.

والثاني: أن الاستعاذة إنما تحسن من الله تعالى إذا لم يكن الله تعالى خالقا للأمور التي منها يستعاذ. أما إذا كان الفاعل لها هو الله تعالى امتنع أن يستعاذ بالله منها لأن على هذا التقدير يصير كأن العبد استعاذ بالله من الله في عين ما يفعله الله.

والثالث: أن الاستعاذة بالله من المعاصي، تدل على أن العبد غير راض بها، ولو كانت المعاصي تحصل بتخليق الله تعالى وقضائه وحكمه وجب على العبد كونه راضيا بها؛ لما ثبت بالإجماع

أن الرضا بقضاء الله واجب.

والرابع: أن الاستعاذة بالله من الشيطان إنما تعقل وتحسن لو كانت تلك الوسوسة فعلا للشيطان، أما إذا كانت فعلا لله ولم يكن للشيطان في وجودها أثر البتة فكيف يستعاذ من شر الشيطان، بل الواجب أن يستعاذ على هذا التقدير من شر الله تعالى، لأنه لا شر إلا من قبله.

الخامس: أن الشيطان يقول إذا كنت ما فعلت شيئا أصلا وأنت يا إله الخلق علمت صدور الوسوسة عني ولا قدرة لي على مخالفة قدرتك وحكمت بها علي ولا قدر لي على مخالفة حكمك ثم قلت: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (البقرة: 286) وقلت: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * (البقرة: 185) وقلت: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 78) فمع هذه الأعذار الظاهرة والأسباب القوية كيف يجوز في حكمتك ورحمتك أن تذمني وتلعنني؟.

السادس: جعلتني مرجوما ملعونا بسبب جرم صدر مني أو لا بسبب جرم صدر مني؟ فإن كان الأول فقد بطل الجبر، وإن كان الثاني فهذا محض الظلم، وأنت قلت: * (وما الله يريد ظلما للعباد) * (غافر: 31) فكيف يليق هذا بك؟.

فإن قال قائل: هذه لإشكالات إنما تلزم على قول من يقول بالجبر، وأنا لا أقول بالجبر، ولا بالقدر، بل أقول: الحق حالة متوسطة بين الجبر والقدر، وهو الكسب.

فنقول: هذا ضعيف، لأنه إما أن يكون لقدرة العبد أثر في الفعل على سبيل الاستقلال أو لا يكون، فإن كان الأول فهو تمام القول بالاعتزال، وإن كان الثاني فهو الجبر المحض، والسؤالات المذكورة واردة على هذا القول، فكيف يعقل حصول الواسطة.

قال أهل السنة والجماعة أما الإشكالات التي ألزمتموها علينا فهي بأسرها واردة عليكم من وجهين: - الأول: أن قدرة العبد إما أن تكون معينة لأحد الطرفين، أو كانت صالحة للطرفين معا، فإن كان الأول فالجبر لازم، وإن كان الثاني فرجحان أحد الطرفين على الآخر إما أن يتوقف على المرجح، أو لا يتوقف فإن كان الأول ففاعل ذلك المرجح إن كان هو العبد عاد التقسيم الأول فيه، وإن كان هو الله تعالى فعندما يفعل ذلك المرجح يصير الفعل واجب الوقوع، وعندما لا يفعله يصير الفعل ممتنع الوقوع، وحينئذ يلزمكم كل ما ذكرتموه، وأما الثاني: وهو أن يقال: إن رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يتوقف على مرجح فهذا باطل لوجهين: الأول: أنه لو جاز ذلك لبطل الاستدلال بترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر على وجود المرجح،

والثاني: أن على هذا التقدير يكون ذلك الرجحان واقعا على سبيل الاتفاق، ولا يكون صادرا عن العبد، وإذا كان الأمر كذلك فقد عاد الجبر المحض، فثبت بهذا البيان أن كل ما أوردتموه علينا فهو وارد عليكم.

الوجه الثاني في السؤال: أنكم سلمتم كونه تعالى عالما بجميع المعلومات، ووقوع الشئ على خلاف علمه يقتضي انقلاب علمه جهلا، وذلك محال، والمفضي إلى المحال محال، فكان كل ما أوردتموه علينا في القضاء والقدر لازما عليكم في العلم لزوما لا جواب عنه. الاستعاذة تبطل قول القدرية:

ثم قال أهل السنة والجماعة قوله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) يبطل القول بالقدر من وجوه: - الأول: أن المطلوب من قولك: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) إما أن يكون هو أن يمنع الله الشيطان من عمل الوسوسة منعا بالنهي والتحذير، أو على سبيل القهر والجبر، أما الأول فقد فعله، ولما فعله كان طلبه من الله محالا، لأن تحصيل الحاصل محال، وأما الثاني فهو غير جائز لأن الإلجاء ينافي كون الشياطين مكلفين، وقد ثبت كونهم مكلفين، أجابت المعتزلة عنه فقالوا: المطلوب بالاستعاذة فعل الألطاف التي تدعو المكلف إلى فعل الحسن وترك القبيح، لا يقال: فتلك الألطاف فعل الله بأسرها فما الفائدة في الطلب، لأنا نقول: إن من الألطاف ما لا يحسن فعله إلا عند هذا الدعاء، فلو لم يتقدم هذا الدعاء لم يحسن فعله. أجاب أهل السنة عن هذا السؤال بأن فعل تلك الألطاف إما أن يكون له أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك، أو لا أثر فيه، فإن كان الأول فعند حصول الترجيح يصير الفعل واجب الوقوع، والدليل عليه أن عند حصول رجحان جانب الوجود لو حصل العدم فحينئذ يلزم أن يحصل عند رجحان جانب الوجود رجحان جانب العدم، وهو جمع بين النقيضين، وهو محال، فثبت أن عند حصول الرجحان يحصل الوجوب. وذلك يبطل القول بالاعتزال، وأما أن لم يحصل بحسب فعل تلك الألطاف رجحان طرف الوجود لم يكن لفعلها البتة أثر، فيكون فعلها عبثا محضا. وذلك في حق الله تعالى محال.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الله تعالى إما أن يكون مريدا لصلاح حال العبد، أو لا يكون، فإن كان الحق هو الأول فالشيطان إما أن يتوقع منه إفساد العبد، أو لا يتوقع، فإن توقع منه إفساد العبد مع أن الله تعالى مريد إصلاح حال العبد فلم خلقه ولم سلطه على العبد؟ وأما إن كان لا يتوقع من الشيطان إفساد العبد فأي حاجة للعبد إلى الاستعاذة منه؟ وأما

إذا قيل: إن الله تعالى لا يريد ما هو صلاح حال العبد فالاستعاذة بالله كيف تفيد الاعتصام من شر الشيطان.

الوجه الثالث: أن الشيطان إما أن يكون مجبورا على فعل الشر، أو يكون قادرا على فعل الشر والخير معا، فإن كان الأول فقد أجبره الله على الشر، وذلك يقدح في قولهم: إنه تعالى لا يريد إلا الصلاح والخير، وإن كان الثاني - وهو أنه قادر على فعل الشر والخير - فهنا يمتنع أن يترجح فعل الخير على فعل الشر إلا بمرجح، وذلك المرجح يكون من الله تعالى، وإذا كان كذلك فأي فائدة في الاستعاذة.

الوجه الرابع: هب أن البشر إنما وقعوا في المعاصي بسبب وسوسة الشيطان، فالشيطان كيف وقع في المعاصي؟ فإن قلنا إنه وقع فيها بوسوسة شيطان آخر لزم التسلسل، وإن قلنا وقع الشيطان في المعاصي لا لأجل شيطان آخر فلم لا يجوز مثله في البشر؟ وعلى هذا التقدير فلا فائدة في الاستعاذة من الشيطان، وإن قلنا إنه تعالى سلط الشيطان على البشر ولم يسلط على الشيطان شيطانا آخر فهذا حيف على البشر، وتخصيص له بمزيد الثقل والاضرار وذلك ينافي كون الإله ناصر لعباده.

الوجه الخامس: أن الفعل المستعاذ منه إن كان معلوم الوقوع فهو واجب الوقوع، فلا فائدة في الاستعاذة منه. وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع، فلا فائدة في الاستعاذة منه. واعلم أن هذه المناظرة تدل على أنه لا حقيقة لقوله: (أعوذ بالله) إلا أن ينكشف للعبد أن الكل من الله وبالله، وحاصل الكلام فيه ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: " أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من غضبك، وأعوذ بك منك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ". المستعاذ به:

الركن الثاني المستعاذ به: واعلم أن هذا ورد في القرآن والأخبار على وجهين: أحدهما: أن يقال: (أعوذ بالله) والثاني: أن يقال (أعوذ بكلمات الله) أما قوله أعوذ بالله فبيانه إنما يتم بالبحث عن لفظة الله وسيأتي ذلك في تفسير بسم الله وأما قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) فاعلم أن المراد بكلمات الله هو قوله تعالى: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * (النحل: 40) والمراد من قوله " كن " نفاذ قدرته في الممكنات، وسريان مشيئته في الكائنات، بحيث يمتنع أن يعرض له عائق ومانع، ولا شك أنه لا تحسن الاستعاذة بالله إلا لكونه موصوفا بتلك القدرة القاهرة والمشيئة النافذة، وأيضا فالجسمانيات لا يكون حدوثها إلا على سبيل الحركة، والخروج

من القوة إلى الفعل يسيرا يسيرا، وأما الروحانيات فإنما يحصل تكونها وخروجها إلى الفعل دفعة، ومتى كان الأمر كذلك كان حدوثها شبيها بحدوث الحرف الذي لا يوجد إلا في الآن الذي لا ينقسم، فلهذه المشابهة سميت نفاذ قدرته بالكلمة، وأيضا ثبت في علم المعقولات أن عالم الأرواح مستول على عالم الأجسام، وإنما هي المدبرات لأمور هذا العالم كما قال تعالى: * (فالمدبرات أمرا) * (النازعات: 5) فقوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) استعاذة من الأرواح البشرية بالأرواح العالية المقدسة الطاهرة الطيبة في دفع شرور الأرواح الخبيثة الظلمانية الكدرة، فالمراد بكلمات الله التامات تلك الأرواح العالية الطاهرة.

ثم ههنا دقيقة، وهي أن قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) إنما يحسن ذكره إذا كان قد بقي في نظره التفات إلى غير الله، وأما إذا تغلغل في بحر التوحيد، وتوغل في قعر الحقائق وصار بحيث لا يرى في الوجود أحدا إلا الله تعالى؛ لم يستعذ إلا بالله، ولم يلتجئ إلا إلى الله، ولم يعول إلا على الله، فلا جرم يقول: (أعوذ بالله) و (أعوذ من الله بالله) كما قال عليه السلام " وأعوذ بك منك " واعلم أن في هذا المقام يكون العبد مشتغلا أيضا بغير الله لأن الاستعاذة لا بد وأن تكون لطلب أو لهرب، وذلك اشتغال بغير الله تعالى، فإذا ترقى العبد عن هذا المقام وفني عن نفسه وفني أيضا عن فنائه عن نفسه فههنا يترقى عن مقام قوله أعوذ بالله ويصير مستغرقا في نور قوله: (بسم الله) ألا ترى أنه عليه السلام لما قال: " وأعوذ بك منك " ترقى عن هذا المقام فقال: " أنت كما أثنيت على نفسك ". المستعيذ:

الركن الثالث من أركان هذا الباب: المستعيذ: واعلم أن قوله (أعوذ بالله) أمر منه لعباده أن يقولوا ذلك، وهذا غير مختص بشخص معين، فهو أمر على سبيل العموم؛ لأنه تعالى حكى ذلك عن الأنبياء والأولياء، وذلك يدل على أن كل مخلوق يجب أن يكون مستعيذا بالله، فالأول: أنه تعالى حكى عن نوح عليه السلام أنه قال: * (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم) * (هود: 47) فعند هذا أعطاه الله خلعتين، والسلام والبركات، وهو قوله تعالى: * (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك) * (هود: 48) والثاني: حكي عن يوسف عليه السلام أن المرأة لما راودته قال: * (معاذ الله أنه ربي أحسن مثواي) * (يوسف: 23) فأعطاه الله تعالى خلعتين صرف السوء والفحشاء حيث قال: * (لنصرف عنه السوء والفحشاء) * (يوسف: 24) والثالث: قيل له: * (خذ أحدنا مكانه) * (يوسف: 78) فقال: * (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده) * (يوسف: 79) فأكرمه الله تعالى بقوله: * (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا) *، (يوسف: 100) الرابع: حكى الله عن موسى عليه السلام أنه لما أمر قومه بذبح البقرةقال قومه: * (أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) * (البقرة: 67) فأعطاه الله خلعتين إزالة التهمة وإحياء القتيل فقال: * (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته) *، (البقرة: 73) الخامس: أن القوم لما خوفوه بالقتل قال: * (وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون) * (الدخان: 20) وقال في آية أخرى: * (إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) * (غافر: 27) فأعطاه الله تعالى مراده فأفنى عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم، والسادس: أن أم مريم قالت: * (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) * (آل عمران: 36) فوجدت الخلعة والقبول وهو قوله: * (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا) * (آل عمران: 37) والسابع: أن مريم عليها السلام لما رأت جبريل في صورة بشر يقصدها في الخلوة قالت: * (إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) * (مريم: 68) فوجدت نعمتين ولدا من غير أب وتنزيه الله إياها بلسان ذلك الولد عن السوء وهو قوله: * (إني عبد الله) * (مريم: 30) الثامن: أن الله تعالى أمر محمدا عليه الصلاة والسلام بالاستعاذة مرة بعد أخرى فقال: * (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون) * (المؤمنون: 98) وقال: * (قل أعوذ برب الفلق) * و * (قل أعوذ برب الناس) * والتاسع: قال في سورة الأعراف * (خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين وأما ينزغنك الشيطان نزغ فاستعذ بالله أنه سميع عليم) * (الأعراف: 200) وقال في حم السجدة: * (إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) * (فصلت: 34) إلى أن قال: * (وأما ينزغنك من الشيطان نزع فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم) * فهذه الآيات دالة على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا أبدا في الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن.

وأما الأخبار فكثيرة: الخبر الأول: عن معاذ بن جبل قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم وأغرقا فيه: فقال عليه السلام: " إني لأعلم كلمة لو قالاها لذهب عنهما ذلك، وهي قوله: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وأقول هذا المعنى مقرر في العقل من وجوه: الأول: أن الإنسان يعلم أن علمه بمصالح هذا العالم ومفاسده قليل جدا، وأنه إنما يمكنه أن يعرف ذلك القليل بمدد العقل، وعند الغضب يزول العقل، فكل ما يفعله ويقوله لم يكن على القانون الجيد، فإذا استحضر في عقله هذا صار هذا المعنى مانعا له عن الإقدام على تلك الأفعال وتلك الأقوال، وحاملا له على أن يرجع إلى الله تعالى في تحصيل الخيرات ودفع الآفات، فلا جرم يقول أعوذ بالله. الثاني: أن الإنسان غير عالم قطعا بأن الحق من جانبه ولا من جانب بخصمه، فإذا علم ذلك يقول: أفوض هذه الواقعة إلى الله تعالى، فإذا كان الحق من جانبي فالله يستوفيه من خصمي، وإن كان الحق من جانب خصمي فالأولى أن لا أظلمه "وعند هذا يفوض تلك الحكومة إلى الله ويقول أعوذ بالله. الثالث: أن الإنسان إنما يغضب إذا أحس من نفسه بفرط قوة وشدة بواسطتها يقوى على قهر الخصم، فإذا استحضر في عقله أن إله العالم أقوى وأقدر مني ثم إني عصيته مرات وكرات وأنه بفضله تجاوز عني فالأولى لي أن أتجاوز عن هذا المغضوب عليه، فإذا أحضر في عقله هذا المعنى ترك الخصومة والمنازعة وقال: أعوذ بالله، وكل هذه المعاني مستنبطة من قوله تعالى: * (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) * (الأعراف: 201) والمعنى أنه إذا تذكر هذه الأسرار والمعاني أبصر طريق الرشد فترك النزاع والدفاع ورضي بقضاء الله تعالى.

والخبر الثاني: وروى معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر؛ وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة ".

قلت: وتقريره من جانب العقل أن قوله: (أعوذ بالله) مشاهدة لكمال عجز النفس وغاية قصورها، والآيات الثلاث من آخر سورة الحشر مشاهدة لكمال الله وجلاله وعظمته، وكمال الحال في مقام العبودية لا يحصل إلا بهذين المقامين.

الخبر الثالث: روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من استعاذ في اليوم عشر مرات وكل الله تعالى به ملكا يذود عنه الشيطان ".

قلت: والسبب فيه أنه لما قال: (أعوذ بالله) وعرف معناه عرف منه نقصان قدرته ونقصان علمه، وإذا عرف ذلك من نفسه لم يلتفت إلى ما تأمره به النفس، ولم يقدم على الأعمال التي تدعوه نفسه إليها، والشيطان الأكبر هو النفس، فثبت أن قراءة هذه الكلمة تذود الشيطان عن الإنسان.

والخبر الرابع: عن خولة بنت حكيم عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: " من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من ذلك المنزل ".

قلت: والسبب فيه أنه ثبت في العلوم العقلية أن كثرة الأشخاص الروحانية فوق كثرة الأشخاص الجسمانية، وأن السماوات مملوءة من الأرواح الطاهرة، كما قال عليه الصلاة والسلام " أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو قاعد " وكذلك الأثير والهواء مملوءة من الأرواح، وبعضها طاهرة مشرقة خيرة، وبعضها كدرة مؤذيةكما ذكره في قول الله تعالى: * (كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) * (البقرة: 275

الركن الخامس من أركان مباحث الاستعاذة. المطالب التي لأجلها يستعاذ.

إعلم أنا قد بينا أن حاجات العبد غير متناهية، فلا خير من الخيرات إلا وهو محتاج إلى تحصيله، ولا شر من الشرور إلا وهو محتاج إلى دفعه وإبطاله، فقوله: (أعوذ بالله) يتناول دفع جميع الشرور الروحانية والجسمانية، وكلها أمور غير متناهية، ونحن ننبه على معاقدها فنقول: الشرور إما أن تكون من باب الاعتقادات الحاصلة في القلوب، وإما أن تكون من باب الأعمال الموجودة في الأبدان، أما القسم الأول فيدخل فيه جميع العقائد الباطلة.

واعلم أن أقسام المعلومات غير متناهية كل واحد منها يمكن أن يعتقد اعتقادا صوابا صحيحا ويمكن أن يعتقد اعتقادا فاسدا خطأ، ويدخل في هذه الجملة مذاهب فرق الضلال في العالم، وهي اثنتان وسبعون فرقة من هذه الأمة، وسبعمائة وأكثر خارج عن هذه الأمة، فقوله: (أعوذ بالله) يتناول الاستعاذة من كل واحد منها.

وأما ما يتعلق بالأعمال البدنية فهي على قسمين: منها ما يفيد المضار الدينية، ومنها ما يفيد المضار الدنيوية، فأما المضار الدينية فكل ما نهى الله عنه في جميع أقسام التكاليف، وضبطها كالمعتذر، وقوله: (أعوذ بالله) يتناول كلها، وأما ما يتعلق بالمضار الدنيوية فهو جميع الآلام والأسقام والحرق والغرق والفقر والزمانة والعمى، وأنواعها تقرب أن تكون غير متناهية، فقوله: (أعوذ بالله) يتناول الاستعاذة من كل واحد منها.

والحاصل أن قوله: (أعوذ بالله) يتناول ثلاثة أقسام، وكل واحد منهما يجري مجرى ما لا نهاية له أولها: الجهل؛ ولما كانت أقسام المعلومات غير متناهية كانت أنواع الجهالات غير متناهية، فالعبد يستعذ بالله منها، ويدخل في هذه الجملة مذاهب أهل الكفر، وأهل البدعة على كثرتها، وثانيها: الفسق، ولما كانت أنواع التكاليف كثيرة جدا وكتب الأحلام محتوية عليها كان قوله: (أعوذ بالله) متناولا لكلها، وثالثها: المكروهات والآفات والمخافات، ولما كانت أقسامها وأنواعها غير متناهية كان قوله: (أعوذ بالله) متناولا لكلها، ومن أراد أن يحيط بها فليطالع " كتب الطب " حتى يعرف في ذلك لكل واحد من الأعضاء أنواعا من الآلام والأسقام، ويجب على العاقل أنه إذا أراد أن يقول: (أعوذ بالله) فإنه يستحضر في ذهنه هذه الأجناس الثلاثة وتقسيم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواعها وأنواع أنواعها، ويبالغ في ذلك التقسيم والتفصيل. ثم إذا استحضر تلك الأنواع التي لا حد لها ولا عد لها في خياله ثم عرف أن قدرة جميع الخلائق لا تفي بدفع هذه الأقسام على كثرتها فحينئذ يحمله طبعه وعقله على أن يلتجئ إلى القادر على دفع ما لا نهاية له من المقدورات فيقول عند ذلك: (أعوذ بالله القادر على كل المقدورات من جميع أقسام الآفات والمخافات) ولنقتصر على هذا القدر من المباحث في هذا الباب والله الهادي.

الباب الثالث في اللطائف المستنبطة من قولنا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم النكتة الأولى: في قوله: (أعوذ بالله) عروج من الخلق إلى الخالق، ومن الممكن إلى الواجب: وهذا هو الطريق المتعين في أول الأمر، لأن في أول الأمر لا طريق إلى معرفته إلا بأن يستدل باحتياج الخلق على وجود الحق الغني القادر، فقوله: (أعوذ) إشارة إلى الحاجة التامة، فإنه لولا الاحتياج لما كان في الاستعاذة فائدة، وقوله: (بالله) إشارة إلى الغني التام للحق، فقول العبد (أعوذ) إقرار على نفسه بالفقر والحاجة، وقوله: (بالله) إقرار بأمرين: أحدهما: بأن الحق قادر على تحصيل كل الخيرات ودفع كل الآفات، والثاني: أن غيره غير موصوف بهذه الصفة فلا دافع للحاجات إلا هو، ولا معطي للخيرات إلا هو، فعند مشاهدة هذه الحالة يفر العبد من نفسه ومن كل شيء سوى الحق فيشاهد في هذا الفرار سر قوله: * (ففروا إلى الله) * (الذاريات: 50) وهذه الحالة تحصل عند قوله: (أعوذ) ثم إذا وصل إلى غيبة الحق وصار غريقا في نور جلال الحق شاهد قوله: (قل الله ثم ذرهم) فعند ذلك يقول: (أعوذ بالله).

النكتة الثانية: أن قوله: (أعوذ بالله) اعتراف بعجز النفس وبقدرة الرب، وهذا يدل على أنه لا وسيلة إلى القرب من حضرة الله إلا بالعجز والانكسار، ثم من الكلمات النبوية قوله عليه الصلاة والسلام: " من عرف نفسه فقد عرف ربه " والمعنى من عرف نفسه بالضعف والقصور عرف ربه بأنه هو القادر على كل مقدور، ومن عرف نفسه بالجهل عرف ربه بالفضل والعدل، ومن عرف نفسه باختلال الحال عرف ربه بالكمال والجلال.

النكتة الثالثة: أن الإقدام على الطاعات لا يتيسر إلا بعد الفرار من الشيطان، وذلك هو الاستعاذة بالله، إلا أن هذه الاستعاذة نوع من أنواع الطاعة، فإن كان الإقدام على الطاعة يوجب تقديم الاستعاذة عليها افتقرت الاستعاذة إلى تقديم استعاذة أخرى ولزم التسلسل، وإن كان الإقدام على الطاعة لا يحوج إلى تقديم الاستعاذة عليها لم يكن في الاستعاذة فائدة فكأنه قيل له: الإقدام على الطاعة لا يتم إلا بتقديم الاستعاذة عليها، وذلك يوجب الإتيان بما لا نهاية له، وذلك ليس في وسعك، إلا أنك إذا عرفت هذه الحالة فقد شاهدت عجزك واعترفت بقصورك فأنا أعينك على الطاعة وأعلمك كيفية الخوض فيها فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

النكتة الرابعة: أن سر الاستعاذة هو الالتجاء إلى قادر يدفع الآفات عنك، ثم أن أجل الأمور التي يلقي الشيطان وسوسته فيها قراءة القرآن، لأن من قرأ القرآن ونوى به عبادة الرحمن وتفكر في وعده ووعيده وآياته وبيناته ازدادت رغبته في الطاعات ورهبته عن المحرمات؛ فلهذا السبب صارت قراءة القرآن من أعظم الطاعات، فلا جرم كان سعى الشيطان في الصد عنه أبلغ، وكان احتياج العبد إلى من يصونه عن شر الشيطان أشد، فلهذه الحكمة اختصت قراءة القرآن بالاستعاذة.

النكتة الخامسة: الشيطان عدو الإنسان كما قال تعالى: * (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) * (فاطر: 6) والرحمن مولى الإنسان وخالقه ومصلح مهماته ثم إن الإنسان عند شروعه في الطاعات والعبادات خاف العدو فاجتهد في أن يتحرى مرضاة مالكه ليخلصه من زحمة ذلك العدو، فلما وصل الحضرة وشاهد أنواع البهجة والكرامة نسي العدو وأقبل بالكلية على خدمة الحبيب، فالمقام الأول: هو الفرار وهو قوله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) والمقام الثاني: وهو الاستقرار في حضرة الملك الجبار فهو قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم).

النكتة السادسة: قال تعالى: * (لا يمسه إلا المطهرون) * (الواقعة: 79) فالقلب لما تعلق بغير الله واللسان لما جرى بذكر غير الله حصل فيه نوع من اللوث، فلا بد من استعمال الطهور، فلما قال: * (أعوذ بالله) * حصل الطهور، فعند ذلك يستعد للصلاة الحقيقية وهي ذكر الله تعالى فقال: * (بسم الله) *.

النكتة السابعة: قال أرباب الإشارات: لك عدوان أحدهما ظاهر والآخر باطن، وأنت مأمور بمحاربتهما قال تعالى في العدو الظاهر: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) * (التوبة: 29) وقال في العدو الباطن: * (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) * (فاطر: 6) فكأنه تعالى قال: إذا حاربت عدوك الظاهر كان مددك الملك، كما قال تعالى: * (يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) * (آل عمران: 125) وإذا حاربت عدوك الباطن كان مددك الملك كما قال تعالى: * (إن عبادي ليس لك عليم سلطان) * (الحجر: 42) وأيضا فمحاربة العدو الباطن أولى من محاربة العدو الظاهر؛ لأن العدو الظاهر إن وجد فرصة ففي متاع الدنيا، والعدو الباطن إن وجد فرصة ففي الدين واليقين، وأيضا فالعدو الظاهر إن غلبنا كنا مأجورين، والعدو الباطن إن غلبنا كنا مفتونين، وأيضا فمن قتله العدو الظاهر كان شهيدا، ومن قتله العدو الباطن كان طريدا، فكان الاحتراز عن شر العدو الباطن أولى، وذلك لا يكون إلا بأن يقول الرجل بقلبه ولسانه (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم). النكتة الثامنة: إن قلب المؤمن أشرف البقاع، فلا تجد ديارا طيبة ولا بساتين عامرة ولا رياضا ناضرة إلا وقلب المؤمن أشرف منها، بل قلب المؤمن كالمرآة في الصفاء، بل فوق المرآة، لأن المرآة إن عرض عليها حجاب لم ير فيها شيء وقلب المؤمن لا يحجبه السماوات السبع والكرسي والعرش كما قال تعالى: * (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) * (فاطر: 10) بل القلب مع جميع هذه الحجب يطالع جلال الربوبية ويحيط علما بالصفات الصمدية، ومما يدل على أن القلب أشرف البقاع وجوه: الأول: أنه عليه الصلاة والسلام قال: " القبر روضة من رياض الجنة " وما ذاك إلا أنه صار مكان عبد صالح ميت، فإذا كان القلب سريرا لمعرفة الله وعرشا لإلهيته وجب أن يكون القلب أشرف البقاع، الثاني: كأن الله تعالى يقول: يا عبدي قلبك بستاني وجنتي بستانك فلما لم تبخل على ببستانك بل أنزلت معرفتي فيه فكيف أبخل ببستاني عليك وكيف أمنعك منه؟ الثالث: أنه تعالى حكى كيفية نزول العبد في بستان الجنة فقال: * (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) * (القمر: 55) ولم يقل عند المليك فقط، كأنه قال: أنا في ذلك اليوم أكون مليكا مقتدرا وعبيدي يكونون ملوكا، إلا أنهم يكونون تحت قدرتي، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: كأنه تعالى يقول: يا عبدي، إني جعلت جنتي لك، وأنت جعلت جنتك لي، لكنك ما أنصفتني، فهل رأيت جنتي الآن وهل دخلتها؟ فيقول العبد: لا يا رب، فيقول تعالى: وهل دخلت جنتك؟ فلا بد وأن يقول العبد: نعم يا رب، فيقول تعالى: إنك بعد ما دخلت جنتي، ولكن لما قرب دخولك أخرجت الشيطان من جنتي لأجل نزولك، وقلت له أخرج منها مذؤما مدحورا، فأخرجت عدوك قبل نزولك، وأما أنت فبعد نزولي في بستانك سبعين سنة كيف يليق بك أن لا تخرج عدوي ولا تطرده، فعند ذلك يجيب العبد ويقول: إلهي أنت قادر على إخراجه من جنتك وأما أنا فعاجز ضعيف ولا أقدر على إخراجه، فيقول الله تعالى: العاجز إذا دخل في حماية الملك القاهر صار قويا فأدخل في حمايتي حتى تقدر على إخراج العدو من جنة قلبك، فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

فإن قيل: فإذا كان القلب بستان الله فلماذا لا يخرج الشيطان منه؟ (قلنا) قال أهل الإشارة: كأنه تعالى يقول للعبد: أنت الذي أنزلت سلطان المعرفة في حجرة قلبك، ومن أراد أن ينزل سلطانا في حجرة نفسه وجب عليه أن يكنس تلك الحجرة وأن ينظفها، ولا يجب على السلطان تلك الأعمال، فنظف أنت حجرة قلبك من لوث الوسوسة فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

النكتة التاسعة: كأنه تعالى يقول يا عبدي، ما أنصفتني أتدري لأي شيء تكدر ما بيني وبين الشيطان؛ إنه كان يعبدني مثل عبادة الملائكة، وكان في الظاهر مقرا بإلهيتي وإنما تكدر ما بيني وبينه لأني أمرته بالسجود لأبيك آدم فامتنع، فلما تكبر نفيته عن خدمتي، وهو في الحقيقة ما عادى أباك، إنما امتنع من خدمتي، ثم إنه يعاديك منذ سبعين سنة وأنت تحبه، وهو يخالفك في كل الخيرات وأنت توافقه في كل المرادات، فأترك هذه الطريقة المذمومة وأظهر عداوته فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

النكتة العاشرة: أما إن نظرت إلى قصة أبيك فإنه أقسم بأنه له من الناصحين، ثم كان عاقبة ذلك الأمر أنه سعى في إخراجه من الجنة، وأما في حقك فإنه أقسم بأنه يضلك ويغويك فقال: (فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) فإذا كانت هذه معاملته مع من أقسم أنه ناصحه فكيف تكون معاملته مع من أقسم أنه يضله ويغويه.

النكتة الحادية عشرة: إنما قال: (أعوذ بالله) ولم يذكر اسما آخر، بل ذكر قوله (الله) لأن هذا الاسم أبلغ في كونه زاجرا عن المعاصي من سائر الأسماء والصفات لأن الإله هو المستحق للعبادة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان قادرا عليما حكيما فقوله: (أعوذ بالله) جار مجرى أن يقول أعوذ بالقادر العليم الحكيم، وهذه الصفات هي النهاية في الزجر، وذلك لأن السارق يعلم قدرة السلطان وقد يسرق ماله، لأن السارق عالم بأن ذلك السلطان وإن كان قادرا إلا أنه غير عالم، فالقدرة وحدها غير كافية في الزجر، بل لا بد معها من العلم، وأيضا فالقدرة والعلم لا يكفيان في حصول الزجر، لأن الملك إذا رأى منكرا إلا أنه لا ينهى عن المنكر لم يكن حضوره مانعا منه، أما إذا حصلت القدرة وحصل العلم وحصلت الحكمة المانعة من القبائح فههنا يحصل الزجر الكامل؛ فإذا قال العبد (أعوذ بالله) فكأنه قال: أعوذ بالقادر العليم الحكيم الذي لا يرضى بشيء من المنكرات فلا جرم يحصل الزجر التام.

النكتة الثانية عشرة: لما قال العبد (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) دل ذلك على أنه لا يرضى بأن يجاور الشيطان، وإنما لم يرض بذلك لأن الشيطان عاص، وعصيانه لا يضر هذا المسلم في الحقيقة، فإذا كان العبد لا يرضى بجوار العاصي فبأن لا يرضى بجوار عين المعصية أولى.

النكتة الثالثة عشرة: الشيطان اسم، والرجيم صفة، ثم إنه تعالى لم يقتصر على الاسم بل ذكر الصفة فكأنه تعالى يقول إن هذا الشيطان بقي في الخدمة ألوفا من السنين فهل سمعت أنه ضرنا أو فعل ما يسوءنا؟ ثم إنا مع ذلك رجمناه حتى طردناه، وأما أنت فلو جلس هذا الشيطان معك لحظة واحدة لألقاك في النار الخالدة فكيف لا تشتغل بطرده ولعنه فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

النكتة الرابعة عشرة: لقائل أن يقول: لم لم يقل: " أعوذ بالملائكة " مع أن أدون ملك من الملائكة يكفي في دفع الشيطان؟ فما السبب في أن جعل ذكر هذا الكلب في مقابلة ذكر الله تعالى؟ وجوابه كأنه تعالى يقول: عبدي إنه يراك وأنت لا تراه، بدليل قوله تعالى: * (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) * (الأعراف: 27) وإنما نفذ كيده فيكم لأنه يراكم وأنتم لا ترونه، فتمسكوا بمن يرى الشيطان ولا يراه الشيطان، وهو الله سبحانه وتعالى فقولوا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

النكتة الخامسة عشرة: أدخل الألف واللام في الشيطان ليكون تعريفا للجنس؛ لأن الشياطين كثيرة مرئية وغير مرئية، بل المرئي ربما كان أشد، حكي عن بعض المذكرين أنه قال في مجلسه: إن الرجل إذا أراد أن يتصدق فإنه يأتيه سبعون شيطانا فيتعلقون بيديه ورجليه وقلبه ويمنعونه من الصدقة، فلما سمع بعض القوم ذلك فقال : إني أقاتل هؤلاء السبعين، وخرج من المسجد وأتى المنزل وملأ ذيله من الحنطة وأراد أن يخرج ويتصدق به فوثبت زوجته وجعلت تنازعه وتحاربه حتى أخرجت ذلك من ذيله، فرجع الرجل خائبا إلى المسجد فقال المذكر: ماذا عملت؟ فقال: هزمت السبعين فجاءت أمهم فهزمتني، وأما إن جعلنا الألف واللام للعهد فهو أيضا جائز لأن جميع المعاصي برضى هذا الشيطان، والراضي يجري مجرى الفاعل له، وإذا استبعدت ذلك فأعرفه بالمسألة الشرعية، فإن عند أبي حنيفة قراءة الإمام قراءة للمقتدى من حيث رضي بها وسكت خلفه.

النكتة السادسة عشرة: الشيطان مأخوذ من " شطن " إذا بعد فحكم عليه بكونه بعيدا، وأما المطيع فقريب قال الله تعالى: * (واسجد واقترب) * (العلق: 19) والله قريب منك قال الله تعالى: * (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) * (البقرة: 186) وأما الرجيم فهو المرجوم بمعنى كونه مرميا بسهم اللعن والشقاوة وأما أنت فموصول بحبل السعادة قال الله تعالى: * (وألزمهم كلمة التقوى) * (الفتح: 26) فدل هذا على أنه جعل الشيطان بعيدا مرجوما، وجعلك قريبا موصولا، ثم إنه تعالى أخبر أنه لا يجعل الشيطان الذي هو بعيد قريبا لأنه تعالى قال: * (ولن تجد لسنة الله تحويلا) * (فاطر: 43) فاعرف أنه لما جعلك قريبا فإنه لا يطردك ولا يبعدك عن فضله ورحمته.

النكتة السابعة عشرة: قال جعفر الصادق: إنه لا بد قبل القراءة من التعوذ، وأما سائر الطاعات فإنه لا يتعوذ فيها، والحكمة فيه أن العبد قد ينجس لسانه بالكذب والغيبة والنميمة فأمر الله تعالى العبد بالتعوذ ليصير لسانه طاهرا فيقرأ بلسان طاهر كلاما أنزل من رب طيب طاهر.

النكتة الثامنة عشرة: كأنه تعالى يقول: إنه شيطان رجيم، وأنا رحمن رحيم، فابعد عن الشيطان الرجيم لتصل إلى الرحمن الرحيم.

النكتة التاسعة عشرة: الشيطان عدوك، وأنت عنه غافل غائب، قال تعالى: * (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) * (الأعراف: 27).

فعلى هذا لك عدو غائب ولك حبيب غالب، لقوله تعالى: * (والله غالب على أمره) * (يوسف: 21) فإذا قصدك العدو الغائب فافزع إلى الحبيب الغالب، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.