قوله تعالى :(وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ) [البقرة:92].    

المعنى : تحقيق أن موسى عليه السلام قد جاءكم - معشر يهود - بالبينات  على كون أنه لاإله إلا الله وأنه رسول الله  من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا وفلق البحر وتظليلهم بالغمام والمن والسلوى والحجر،عل ذلك ان يحرك قلوبكم فتؤمنون ولا تعصون. إلا أنكم ولمجرد ذهابه لملاقاة الله تعالى عند جبل الطور قد كفرتم باتخاذكم العجل معبودا من دونه تعالى. 

الوقفات :

 1- أهمية الحجج والبراهين والاستدلالات القطعية في الدعوة إلى الله تعالى. ومنه تعددها لتكون أمكن في الاستدلال وأوقع في الإفهام وأقطع لحجة المخالف. وأفيده من مجيئ(البينات)  جمعا. 

 . استجاشة المدعو بمخاطبته استشرافا لقبوله وتفاؤلا بانقياده -2 

  3- تضمن الداعية أساليب التوكيد في أسلوب الدعوة كون ذلكم أدعى لقوة الحجة وسلامة المنهج. لتثمرقبولها وتؤتي أكلها. وأفيده من ورود اللام الواقعة في(ولقد)  وحرف التحقيق(قد)  ودلالة الفعلين الماضيين(جاءكم)  و(اتخذتم)  . . 

 4- ذكراسم الرسول المبلغ عن الله رغم كونه معروفا لديهم أدعى لتقبلهم له وأمعن في الحجة عليهم كونه منهم وينطق بألسنتهم فلم يأت بطلاسم لايفهمونها. أوأساطير يدعونهاكما قال تعالى(وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[الفرقان:[5] . ولئن قالوا؛ قال الله(قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا)[الفرقان:6].     

 5-تضافر الحجج والبراهين أقطع لاحتجاج المدعو وأدعى لاستسلامه فلم تبق له حجة يركن إليها أو مزاعم يؤول إليها. وذلكم لقوله تعالى: بالبينات. اذ ليست بينة واحدة أو اثنتين وإنما كثرة كاثرة على ما سلف بيانه.     

  6- ضحالة الكفر وأهله  مهما زعموا من علم أو توهموا من سلطانه. بدليل اتخاذهم عجلا - لايملك لهم ضرا ولانفعا- إلها من دون الله تعالى.!    

 7- استعداد القلوب المريضة لتلقي الشبهات. اذ بمجرد ذهاب نبي الله موسى عليه السلام لملاقاة الله تعالى وإذ بهم يتخذون العجل إلها من دونه تعالى.  

ومنه أفيد رعاية القائد لمن يقود وتحسس الرئيس لمرؤسيه حراسة للدين وحفظا للنظام وتمكينا للديانة.   

. تمكن الكفر من قلوبهم وسريانه في عروقهم  واشتماله أجسامهم -8. 

    وأفيده من دلالة التضعيف الوارد في حرف التاء في قوله تعالى(اتخذتم)          فزيادة مبناه دلالة على زيادة معناه. إذ الأصل(أخذ).   

9- ومخاطبتهم بالكفر تبكيتا للكفر وللكافرين معا. ولعلهم أن يستيقظوا من غفلتهم ،ويفيقوا من سكرتهم. نيلا لرضا الرحمن وتحقيقا للسعادة والعيش في أمان. ذلك لأن الله تعالى قال(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)[الأنعام:[82] .    

10- وقيامهم بالكفر جمعا موجب للشفقة داع للحسرة على قوم قال الله فيهم(سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ۚ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأعراف:146- 147] . في سياق مهيب قبيل ذكر تألههم ل(عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَار)! كما قال تعالى(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ ۚ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ۘ اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ)[الأعراف:148]. 

 وهو دليل ضعف قلوبهم وخوار أفئدتهم. وتهافت مزاعمهم. إذ إن عجلا هذه صفاته كونه(عجلا- جسدا- له خوار-لايكلمهم- ولايهديهم سبيلا) . وكلها نعوت داعية إلى خيبة من اتخذوه إلها من دونه تعالى من بعدها. وإلى تطامن سفههم إذ العقل السليم والفطرة السوية إنما تعبد من يهديها سواء السبيل لا خبط عشواء كما يفعلون.!  

 11- واجتماعهم على الكفر من دلالات ضمائر خطاب الجمع الكثيرة الواردة في الآية  من مثل(جاءكم - اتخذتم – وانتم ). 

12- ودلالات تضافر أدوات ضمائر الخطاب في تسارع تميزت به الآية الكريمة قمن أن يفيقوا وداعية للاستيقاظ من غفلة، والاستضاءة بنور الهدى والصلاح. 

13-وكفرهم جميعا لاينقض استثناء. وذلك لاحتمال وجود نفر ولو قليلاعلى الحنيفية السمحة. كما مؤمن آل فرعون كما في قوله تعالى(وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)[غافر: 28] . وكما امرأة فرعون نفسه! تلك المرأة التي خلد الله تعالى ذكرها في كتاب يتلى إلى يوم الدين كما قال تعالى(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[التحريم:11] . كيما لايخلو زمان من موحدين حجة لله على العالمين . لما أخرج الإمام أحمد في مسنده، عن نُفيل بن هشام بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل عن أبيه، عن جده قال: كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بمكة، هو وزيد بن حارثة، فمر بهما زيد بن عمرو بن نُفيل، فدعوه إلى سُفرٍ لهما، فقال: يا ابن أخي، إني لا آكل مما ذُبح على النُّصب، قال: فما رُؤيَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أكَلَ شيئاً مما ذُبح على النُّصب. قال: قلت: يا رسول الله، إن أبي كان كما قد رأيت وبلغك، ولو أدرككَ لآمنَ بك واتَّبعك، فاستغفِرْ له، قال: نعم، فأَستغفِرُ له، فإنه يبعث يومَ القيامة أُمَّةً واحدةً) .[صححه أحمد شاكر، بينما ضعفه الأرنؤوط في تحقيق المسند] .  

 14 - وأهمية السلطان وأثره في حفظ عقيدة الأمة. اذ في وجود سيدنا موسى عليه السلام لم تشر الاّيات اإلى انحرافهم العقدي. في الوقت الذي سارعوا فيه الى الارتداد بمجرد ذهابه عنهم. وأفيده من قوله تعالى: من بعده. وانظر إلى ردة ضارية بعيد وفاة رسولنا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وذلك لما له من هيبة وهبها الله تعالى إياها، ولما له من حجة بالغة يمحو بها آثارانحرافاتهم، ولما حباه تعالى به من قوة في الإجابة عن تساؤلاتهم.بيد أن الله تعالى كان قد قيض لها أبابكر فمحاها، فحفظ الله به قواعد الدين وحماها.  

  15- والنعي على - يهود - في عدم الإيمان برسالة الرسول محمد صلى الله  تعالى عليه واّله وسلم. إذ لديهم رصيد تمرد على أنبيائهم من قبل.  

وشاهده خطابهم في قوله تعالى(جاءكم)  كونه من الله تعالى إليهم زمن الرسول محمد صلى الله تعالى عليه واّله وسلم.  

16- وتعريف العجل شارة عليهم وزيادة نكير على فعلهم ولازالوا يعرفون بصنيعهم الذي لم تعرفه أمة مثلهم في تاريخ الهبوط إلى هاوية الشرك ومدارك الردى بأنهم(عبدة العجل) . في وسم مهين ونعت معيب.  

. وتعريف العجل يوحي بأنه كان معروفا لديه  -17

 18- وتقديم المفعول به(العجل)  على شبه الجملة(من بعده)  للاهتمام . إذ هو محل النكير عليهم.  

  19- وورود حرف العطف(ثم)  يوحي بزيادة سبب النكير عليهم اذ مرت فترة  ولو كانت قصيرة على اتخاذهم إياه معبودا لهم من دون الله. والأصل أن مرور هذه الفترة - ولو كانت قصيرة -مؤذن بالروية والتفكير والتأثر بالبينات  لإعمالها أثرها في الإذعان والقبول. لكنها يهود.  

20-ودلالة واوالحال في قوله تعالى(وأنتم)  لبيان حالهم والتشنيع على حالهم السيئة باتخاذهم العجل معبودا لهم من دون الله تعالى.    

21- وجملة(وأنتم ظالمون)  جملة حال. بيانا لحالهم التي هم عليها ووصما لنعوتهم التي هم قائمون بها وذلكم أدعى لتبكيتهم لما هم عليه من كفر بالله وشرك به تعالى.  

ومجيئها حالا جملة إسمية أدعى للصوق حالهم بهم واستمراره استمرار مكثهم على ضلالهم. وهي صورة كئيبة تشي بالإقلاع وتوجب الانصياع لمنهج الله تعالى رب العالمين.     

 22- وورود المسند إليه(أنتم) ضمير فصل بتسديد الخطاب إليهم اختصاصا لهم. بالخطاب ونكيرا عليهم بالعدوان على الله تعالى كفرا به ب(عجل).   

  23- وذكر الحال جملة حالية  بركنيها المسند والمسند إليه- وليس مفردا- نذير تمكن الظلم منهم وتأصله فيهم.  

   24 - ومجيئ الحال جملة إسمية بدلالة الثبوت والاستمرار. نكاية عليهم وتشنيعا عليهم. وفيه بيان إعجاز عظيم إذ كان بإمكانهم الرجوع لو أرادوا  لكن الله تعالى أبى إلا  أن يكون الكفر وسما لهم ولاحول ولا قوة إلا بالله.  

  25- والكفر بالله تعالى ظلم. كما قال تعالى(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)[الأنعام:[82] . وأي ظلم أعظم من إعطاء حق الله   وهو إفراده تعالى- بالعبادة لغيره؟.  

26- وجملة الحال(وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ)  دالة على استمرار ظلمهم وتماديهم في غيهم وتوتراهم على شركهم. وذلك بدلالة اسم الفاعل(ظَالِمُونَ) ومايشي  به من استمرار ومايعنيه من دوام.  

26- وعموم الآية لكل شارد عن الهدى واشتمالها لكل ناكص عن سواء السبيل. وذلك إعمالا لقاعدة(العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب) . وتلك من بدهيات ذكر القصص إيقاظا للغافلين وتنويها بالمعتبرين بسير السالفين وتاريخ الغابرين.