يعود الديالكتيك المتجدد على الدوام منذ العصر الكلاسيكي في أوربا إلى نزاع المادة والروح بطريقة الأخذ بالملموس أو نفيه، وهي بهذه الوضعية تضع الفرد الإنساني أمام مفترق طريقيْن، أحدهما يقود إلى الملموس من جهة، والآخر يقود إلى غير الملموس مِن جهة مقابلة، بحيث يكون عليه أن يختار أحَدَ المعلميْن، دون المرور على الآخر، لهذا اجتهدت كافة المسوغات، النظريات وحتى التبريرات في شرح هذا الانفصال التام، بل بعضها تعمَّد وصف الحالة هذه بالتوازي في إشارة إلى القطيعة المطلقة كتلطيف للكلام دون الأمور الأخرى.

"إنَّ الحياة ليست جديرة إلاَّ بالإدراك الحسي، وإنَّ كلَّ إدراكٍ هو القدرة على معرفة شيء عن طريق الحس" (أرسطو، دعوة للفلسفة، طبعة القاهرة – 1987م، ص: 57).

أخذت المنظومة الغربية بهذا المرجع أساسي للرأسمالية كمشروع اقتصادي وللبرالية كمشروع سياسي، اجتماعي وحتى ثقافي، فوجد ماركيز بأنَّ العامل المهمَّ والمشترك بين هذه المشاريع هو تدعيم المركزية الغربية، والانطلاق إلى ما بقي مِن العوالِم الأخرى كانعكاسات لما يريد رؤيته هذا الغرب نفسه في ما يراه من حوله، حتى تمكَّن الإنسانُ الغربي من اعتبار نفسه كمقياس كافة العوالِم المتبقية؛ وقد ازدادت دهشة ماركيز وهو يكتشف بأنَّ الانبطاح التام مِن طرف كلِّ ما هو ليس غربي قد صار واقعا وعاديا أمام الغرب بشكل كامل، وهي علاقة شرطية طردية تُلزم الحياة بوجود النكهة الغربية حتى تُسمى حياة.

هذه الصيغة الملوَّنة للعبودية، جعلت ماركيز لا يكفر بالغرب فقط، بل صار يحمل بين ثناياه تمرُّدًا على كلِّ ما هو غربي، ليس على سبيل العناد والمناكفة، بقَدْرِ ما هو على وجه المقاومة ومحاولة العودة إلى الزمن الأخلاقي، الذي يعتبره الغرب ذاته العدوَّ الأوَّل، بل والخطر الوجودي الوحيد الذي بإمكانه الصعود أمام هذا المدِّ الغربي غير المتوازن داخليا لكنَّه يحقق نتائج هائلة على الأرض.

يفسِّرُ ماركيز قيام المنظومة الغربية بهذه القوَّة وحاجتها المستمرة إلى القوَّة كَمغزى وهدف قيامها بالأساس، فهي نتيجة طبيعية من ناحية الوازع النفسي الذي شارك في تأسيسها ولا يزال يسهر على استمرارها، بينما في منطق الحضارات والامبراطوريات؛ فالحالة الغربية لا تتعدى في قاموس ماركيز كونها طفرة مَرَضية – باتولوجية – ازدهرت لإشباع الجشع الذي غلب على الطبع الأوربي مع نمو غريزة البقاء عند مواجهة أوربا للحضارات التي قامت على ضفاف البحر المتوسط، وفي ظل عُقَد النقص والحاجة إلى إثبات الذات، تطوَّرت مفاهيم الاحتلال والهيمنة في الجعبة الأوربية – الغربية حتى وصلت إلى منتهى التوحش، وعلى الرغم من عملها الدؤوب لأجل إخفاء أوجهها البشعة، بواسطة الوسائط الإعلامية مختلفة، فإنَّها بقيت على سبيل الوضوح، كيانات تحتاج لبعضها البعض حتى تفترس كلَّ ما هو غير انجليزي – غربي، فلم تنجح كلُّ مساحق شعارات حقوق الإنسان التجميلية، ولا تلك المنظمات الخيرية من التغطية على المهمة الغربية الأساسية اليوم، والتي تقوم بها المنظومة الغربية تحت ستار الحداثة، تلك المتمثلة في تدمير الطبيعة، الإنسان والثقافة، حتى تسود أنواعٌ مِن الحيوانية المتوحشة، تلك التي تجعل العالَم خرابا، إرضاءً لغريزة البقاء لدى الغرب المصاب بعشق الذات ومقت كلِّ ما يختلف عنها.

عبر الدراسات المستفيضة التي أنجزها الأستاذ ماركيز، وخلال القراءات التي قام بها أيضا، قد أدرك هذا الفيلسوف بأنَّ المنظومة الغربية هي الخطر الأكبر على الحياة، وهي في عمقها عبر مفكريها أنفسهم وحتى علمائها تدرك هذه النتيجة، لهذا هي تعمل على محاولة صناعة عوالِم جديدة، تحاول الاستفراد بها، حتى تنجو – حسب زعمها – مِن السموم التي أنتجتها هي بأياديها وعقولها.