عند النظر إلي أخلاق إنسانٍ ما، أو إلى أخلاق مجموعةٍ من الناس، أو إلى أخلاق مجتمعٍ كامل، فإننا ننظر إلى العادات المعروفة والسائدة والمُحكَّمة في هذا المجتمع، وننظر كذلك إلى الظروف الحياتية للطبقات المختلفة، التي تعيش في ذلك المجتمع، فعند ذلك نقف على أسباب صلاح وتقدم هذا المجتمع إن كان صالحاً ومتقدماً، ونقف كذلك على أسباب فساده إن كان فاسداً.

 وعند النظر إلى المجتمع الجاهلي إبان ظهور الدعوة الإسلامية، نجد أنه كان مزيجاً غريباً من الأخلاق وأضدادها، فنجد الكرم والنخوة والوفاء بالعهد، والتعفف عن كل ما يشين سمعة الإنسان، ثم نجد العكس تماماً، فنجد شرب الخمر وانتشار الفحش والفجور، والإغارة على أموال وأعراض من ليس له نسب ومال، ونجد في ذلك المجتمع أن كفة الفساد أرجح وأوضح.

وإذا كان المجتمع كذلك، وكانت البيئة التي ينشأ فيها أحدهم بهذه الصورة، فإنه مع تعاقب الأجيال تزداد كفة الفساد رجحاناً، ولذا كان من العجيب والفريد خروج أفرادٍ من بين هذا المجتمع، فيهم حسن الأخلاق والشمائل، والتعفف الكامل عن الفجور، والعبادة والتبعية العمياء لأحجار لا تضر ولا تنفع، فكان النموذج الأمثل من هذه النماذج الفريدة الطاهرة، التي خرجت من رحم هذه الظروف الإجتماعية، هو الصادق الأمين -صلى الله عليه وسلم-.

 فقد كان -صلى الله عليه وسلم- قبل بعثته بالإسلام هادياً ومبشراً ونذيرا، صاحب أخلاقٍ دمثةٍ وشمائل كريمة، فكان لا يسجد ولا يتعبد لصنم، ولا يشرب خمراً، ولا يحضر مجلساً فيه لهوٌ وصخب وإخلالٌ بالمروءة، وكان عفيفاً كريماً يعين صاحب الحاجة، ويدفع الجوع عن صاحب الفاقة، وكان صادق الأقوال أميناً على الأعراض والأموال، فكان أحق أن يتحاكم إليه الناس في قضاياهم، فكان الموقف العظيم بعد إعادة بناء الكعبة، والشهادة الصادقة في حقه -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: "ذلك الأمين ارتضيناه".

وكان -صلى الله عليه وسلم- صاحب همةٍ عاليةٍ تبغي الكمال والجمال، لاحت بوادر هذه الهمة في سنين حياته الأولى، حينما أبى أن يكون عالة على عمه أبي طالب، فخرج ليعمل وليقوم على حاجته بنفسه وليعين عمه، فكان صاحب اليد العليا، وها هو أيضاً يعمل تاجراً قبل وبعد زواجه بأم المؤمين السيدة خديجة -رضي الله عنها- فلم يكن يرضى أن يكون لأحدٍ منةً عليه، وهذا من كرم النفس وعلو الهمة.

 ثم بعد استقرار حياته -صلى الله عليه وسلم- يكون صاحب همةٍ في العبادة، فهذه النفس السوية بين جنبيه والتي أنكرت عبادة الجاهلية، تسعى لسلوك طريق العبادة القويم السليم، فكان يتعبد بحنيفية جده إبراهيم الخليل -عليه السلام- وجعل مكان عبادته غار حراء، يتكبد صعوبات التسلق ومواجهة الأخطار، مثل خطر اللصوص والأفاعي والعقارب وكل ذلك في سبيل الخلو بربه، وهذا من الهمة العالية.