رائحة الدم في كل مكان. لم يعد الدخول إلى الإنترنت أمراً مريحاً. بعض الأوقات أشعر بالملل من حصر نفسي في برنامج الوورد و منصة التدوين في مدونتي. أشعر بالمحدودية عندما أكتفي بقراءة كتب، فالكتب لا تبث الأخبار الجديدة. يبدو من صفات الأنسنة إحتياج المرء لأن يكون مطلعاً على ما يحدث حوله، لتغذية غريزة الشعور بالحياة. لكنني أشعر بالقلق و الغضب و عدم الأمان عندما يكون كل ما يبث حولي من أخبار هو قتل و تصفية أجساد و نحر و تمثيل بالجثث و خيانة و استغلال كل ما يحدث من داعش و مواليهم وأتباعهم لضرب الدين. هؤلاء الذين يستغلون الحوادث الداعشية لبث كرههم للإسلام فقط ولا تجد كلمة نقد واحدة في كلامهم للمسيحية ولا حتى اليهودية! هم لا يقلون جُرماً برأيي عن داعش. لأنهم يمشون مرحين بجهلهم المركب الذي يدركونه جيداً، يعوون أكثر من جيداً أن ما يحدث لا علاقة له بالإسلام. مثلما لا علاقة لي ولا لك بمقتل فلان وعلان. لكن عقولهم ضلت السبيل و يحسبون أنفسهم إنسانيون و عقلانيون .

أشعر بالألم لأنني من جيل عايش هذا الواقع. يحيا في هذا الزمن. و كأنني أحمل ذنب السلالة في شذوذ بعض أفرادها عن الحياة النعمى، هي نُعمى حتى ولو اتسمت بشقاء محمود. 

ليتني ولدت و عشت في زمن أمي و أبي. زمن جدتي. زمن الطيبين الذين كانوا يمشون في مناكب الأرض عملاً و بحثاً عن الرزق لغايات نادراً ما تخرج عن توفير كسوة الصيف و الشتاء لهم ولأبنائهم، و قيمة هدايا نجاح و عيد لأفراد العائلة، و توفير مصروف الذهاب إلى المصْيف في الإجازة، وكان دوماً ذلك المصيَف هو عسيـر. 

أتذكر عندما حدثت تفجيرات أبراج الخُبر . كنت في المرحلة الإبتدائية. التلفزيون يقع صالة البيت. الصوت دائماً مسموع باعتدال لأن جدتي رحمها الله كانت تتابع الأخبار مثل إخوَتي. لقد ذعر الجميع عند بث خبر التفجير. إلا أنا! لم أكن أفهم أن هذا حدث عندنا. فهمت الخبر على أنه لقطة آكشن في فيلم ما. لكن كانت كلمة القاعدة، تسجيل، أسامة بن لادن.. تتكرر كثيراً على أذني. أخي الكبير مهووس دوماً بالتحليل السياسي. لاحقاً عندما كبرت أكثر لاحظت أن تنبؤاته المبنية على مجريات ما يحدث دقيقة، تقع فعلاً. كان يقول أن القاعدة ستفعل شيئاً خطيراً في أمريكا. عندما وقعت أحداث 11 سبتمبر كنت قد أصبحت أفهم و أحيط ما يحدث. ذعرت من المنظر كالجميع. لكن حدث أمر في بيتنا، هو أنه عند الإعلان عن وجود جوازات سفر خضراء في موقع الحادثة لم يصدق أحد منا هذا الكلام. اعتبره الجميع تأليف و كذب و قلنا أن الأمريكيون متأثرون بهوليوود وبدلاً من البحث عن الإرهابيين الحقيقيين يقومون بفبركة أدلة لإستغلال الحادثة سياسياً، كان يقال في مجالس الرجال حسبما كنت أسمع من حوارات إخوتي مع بعضهم، أنهم يفعلون ذلك لضرب سمعة الإسلام المتمركزة قوته ونشاطه في السعودية باعتبار أسامة بن لادن سعودي. لكن في إحدى الصحف آنذاك صدر بيان يذكِّر أن الحكومة السعودية قد سحبت الجنسية من بن لادن منذ سنوات قبل حدوث تفجيرات أمريكا. و التي نكتشف اليوم، في زمننا المُجرم، أن الأمر كله قد يكون أمريكياً صرفاً لا علاقة فيه للقاعدة ولا لأسامة ولا للإسلام. 

لم يكن الإنترنت قد دخل بيتنا بعد. كنت اقرأ الجرائد بنهم. و أشاهد أيضاً الأخبار في وقت الإعادة لأن إخوتي لم يكونوا يسمحون لي بالمشاهدة معهم. الأمر الملاحَظ حينذاك هو أننا لم نكن نسمع عن أشخاص مشرعنين للإرهاب و قتل و ترويع الآمنين. لم نسمع عن جماعة تريد إحياء ذكرى جهيمان. كما لم نسمع أبداً عمن يتهمون الإسلام و يحملونه مسئولية بزوغ أولئك المجرمين. كان الجميع متفقاً على أن هذا الأمر انحراف و كلما سمعوا عن حدوث تجنيدات خفية من مشائخ الصحوة للشباب كي يرسلوهم إلى أفغانستان و العراق كلما ازداد تعلقهم بالصلاة و الدعاء و احترام سيرة الرسول صلى الله عليه و سلم و زمنه الشريف الذي كان يحارب فيه لمنع الأذى، لا لنشرِه و الحث عليه. 

ما يحدث اليوم يصيب العقل بالتفسخ دون عناء. ربط الإسلام و اللحية بالإرهاب جريمة لا تقل شناعة عن جرائم داعش. هناك ملتحين لم يرَ منهم المجتمع سوى الخير و الصوت الجميل في الأذان و الإقامة. بفضل أخي الملتحي أنا اليوم في الخارج أكمل دراستي دون أن يكفرني أحد في العائلة أو يقذفني بخطيئة. هؤلاء الذين أفنوا أبصارهم في قراءة كتب الملحدين و المعادين للإسلام و يروجون لها في هاشتاقات القراءة و الثقافة على أنها كتب فكرية تغذي العقل و تفيقه من سباته، لماذا يعتقدون أنه من الإساءة لثقافتهم أن يقرأوا كتاب رياض الصالحين و الرحيق المختوم؟ بفضل هذين الكتابين لم ألجأ يوماً لما يسمى شيخ أو رجل دين كي أتفقه في مسألة اشتبه حكمها علي. و بفضل هذيك الكتابين و صحيح البخاري بعد القرآن أجزم بيقين و اطمئنان هو الإطمئنان الوحيد في خضم برَك الدم من حولي أنَّ الإسلام ليس دين الإرهاب، ولا حتى الإسلام السعودي كما يقال. لدينا عادات أصيلة و فاضلة جعلت من جيل آبائنا و أجدادنا حكماء و مربي أجيال فاضلة نراهم اليوم وقد اعتلوا بكفاحهم مراتب عليا وظيفية و اجتماعية. يحظون بالإحترام و التقدير في المجالس ولم يعيبهم ولم يحولهم لداعشيين أنهم يحملون المسواك في جيب ثوبهم ولا أنهم يوقظون أبناءهم إلى الصلاة. أدين التطرف الذي كان لدينا في مناهج المدارس و التطرف في التلقين لا التعليم الذي ابتلي به تعليمنا في جيلي و جيل إخوتي. لكنني أنا، إخوتي، أقاربنا، معارفنا، معارف معارفنا.. أهالي حينا، و منطقتنا.. كلنا لم يخرج منا داعشي، وقد درسنا في نفس المدارس و تعلمنا نفس التعليم ولم نكن من المدللين المنتسبين إلى مدارس نموذجية.

رحم الله شهداءنا و حمانا من شر المنزلق.