هذا قول امرأة مسلمة، صلت خلف الرجال، وإذ إن هذه هي سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ودرءًا للفتنة، واحترامًا للقيم، وتنزيهًا للشيم، ورفعًا للرؤوس، وحين تكون مشمولة بقلوب غامرة عامرة برفع قيم التستر، والتحجب، والاحتشام، برهانًا على العفة، ودليلًا على التعبد لله تعالى العلي الأعلى سبحانه، وحين كانت القلوب متصلة بالله تعالى وليها ومولاها، وهذا الاستتار عن أعين الرجال هو الفضيلة، لا جزؤها بل كلها، وعينها، ونفسها، وحين كانت المرأة في مقاييس هذا الدين جوهرة، مصونة، مكرَّمة، معززة، محترمة، مرفوعة فوق الأكف والرؤوس والهامات، ولأنهن سكنُ رجالهن، ويكأنهنَّ لِباس أزواجهن، ووعاء ومصادر أمتهن، بنتًا وابنًا، وأمًّا وأبًا، وأخًا وأختًا، وزوجًا وزوجة، وخالًا وخالة، وعمًّا وعمة.

 

وفي هذا الدين وحسبك، تجد هذه المكانة العالية الرفيعة السامقة الأبية للمرأة، وحين كانت في غيره إسفافًا وإهانة وتوهينًا، ولما كانت حرية، ولا حرية! وحين كان هذا الشعار المستعار هو بيِّن في وضوحه، وحين كان لاستلابها كرامتها وعزتها، وعدم القيام على مؤنتها، حتى ضاقت بها مجتمعاتها، ولم تحنَّ عليها، يوم أن كانت سكنًا ولباسًا وإعفافًا، ومصدر الوالد والولد، والبنت والأم، والأخت والأخ، والعم والخال، وثم إذا أخذوا منها امتلاء الجعائب طرحوها، وثم إذا اغترفوا منها بغيتهم رموها، وفي قاع ومن أسفل! ودونما رحمة بها ولا شفقة عليها!

 

وأقول: وهذه امرأة صلت فرضها، ومن حيث كانت قد آمنت بالله تعالى ربها ربًّا خالقًا ورازقًا ومحييًا ومميتًا، وبيده تعالى وحده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يُجار عليه؛ وكما قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [المؤمنون: 88]، ومنه فقد أفردته بألوهيته آمرًا وحده، وناهيًا وحده، وحين حددت مصدر تلقيها، وإذ كان من هذا الرب الكريم القوي العزيز، القادر الحكيم الخبير، الذي به قد آمنت، وله قد خضعت، وله استكانت، وتضرعت، وخشعت، وأنابت.

 

وهذه المرأة كانت مثالًا للتوحيد، وكانت قدوة للعبيد، وحين أفردت ربها ومن معها يومها هذا، بالربوبية والألوهية، وكما كانت مثالًا للعفة، وحين نادت صوتًا خفيًّا، وإذ كان يكاد خافتًا، ليس يعلو؛ قيمة للصلاة، وهيبة للمسجد، ووقارًا أمام الرجال، يومها هذا، وغير يومها هذا، أن: ألَا تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قارِئِكُمْ؟ وفي نداء العفة بأصولها وفروعها، وفي صوت الحكمة من قيعانها، وحين علمت بفطرتها، أن هكذا يكون هذا الدين، مصدرًا لستر العورات، وموئلًا للعفاف والإحصان، والآداب الحميدة والمروءات، وكريم النعوت، وجميل الصفات، دينًا قيمًا كله، وحين أعلى للمرأة من قيمتها، ولما أضحى لها راعيًا، وحين أصبح لها متوِّجها تاج وقارها، وملبسها رداء سترها، وعفافها، وسَتَرَها محبة للرحمن، وطاعة للديان، ورغبة في التوبة والغفران، وتوقًا للجِنان، وهروبًا من السعير والنيران.

 

وبيد أن هذا المشهد أخالني مستحضرًا إياه، وحينه كان ملفوفًا بوسام الهدى، وموشحًا بلباس التقوى: ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ [الأعراف: 26]، وحين أقام الناس صلاتهم، وحين أدوها وعلى وقتها، قلوبًا خاشعة، وصفوفًا راكعة، ساجدة قانتة لربها العلي الأعلى سبحانه.

 

ولأنها وقفت عند النص؛ وحين قال الله تعالى ربها وربنا: ﴿ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]، والذي كان منه حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومحل الكلام، والدوران في فلكه، استنارة، واستضاءة، وتشرفًا؛ وحين قال صلى الله عليه وسلم: ((صَلُّوا صَلاةَ كَذا في حِينِ كَذا، وصَلُّوا صَلاةَ كَذا في حِينِ كَذا)).

 

وقيمة النص هكذا، عاملة في قلوب القوم عملها، وحين لبوا نداء ربهم الحق المبين، خاشعين، متدبرين، طائعين، راضين، وإذ وجدوا في صلاتهم الراحة والطمأنينة، والأمن والسكينة، وحين تنزلت عليهم من علٍ، وما أدراك ما علٍ؟ إنه من حيث كانت القدرة المطلقة، ومن حيث كانت، وإذ تكون الربوبية النافذة، حينَ الناس هذا، وكل حين آخر، من يومهم أو غدهم، أو مستقبلهم القريب المستور، أو من آخر كان بعيدًا غير منظور! وحين كانت من الله تعالى العلي الأعلى سبحانه، وتقدس، وجل، وعز، وتبارك اسمه، وتعالى جدُّه، ولا إله غيره، وإذ لم ينسوا حديث رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم وحين قال: ((يَا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها))[1]، وإذ هم في طريقهم، وإنها لفرض ربهم، وإنه تعالى الغني، فلا تزيده طاعة مطيع مقبل، ولا تنقصه معصية عاص مدبر؛ ومصداقه في حديثة تعالى إلى العباد، الحاضر منهم والباد؛ وحين قال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنَّهُ قالَ: ((يا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ، إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ، إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ، ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ، فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ، وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا))[2].

 

ولأنها أعمال العباد، وخيرها إليهم راجع، وفضلها عليهم عائد، وشرها عليهم، ووبالها إليهم.

 

وإلا أن الصلاة، وعلى نحو سبق ذكره، ولأنها وعلى وقتها، وهذا كاشف عن معنى الالتزام، وكما أنه كم كان مبينًا عن مضامين الطاعة، والانقياد، والانضباط، والانخراط في منظومة تدريبية على النظام، ويكأن كل الكون خلق منظمًا، ومرتبًا، وكان منه شأن الصلاة، تخريجًا لأمة عماد أمرها النظام، وأساس عملها الانضباط.

 

ويكأننا لسنا نغادر موضعنا هذا إلا ببيان شأن القرآن، وإلا ببرهان عظم الفرقان، وحين كان وسامًا على رؤوس أهله، وحتى تبوؤوا به أرفع المقامات، وحين جُعِلوا به أئمة، وحين كانوا به يقرؤون، ويرتلون، وبه يحكمون، ويعملون، ويعدلون، ولو كانوا صغارًا مميزين.

 

وإذ ليس كانت ترانيم، لا تعدو حنجرة، وإذ لم يعدُ صوتًا مرتفعًا مرة، وأخرى منخفضة في كَرة، في بدع من الأمر، أخرج القرآن عن رسمه، وتعدَّاه عن إلْفِه، وتحول به عن غير ما أنزل لشأنه تدبرًا، وحين أنزل للحكم والعمل والاتباع، لا قَرَأَة في المآتم والحفلات، فأولاء مرجعهم إلى الله تعالى مولاهم الحق المبين، وليحكم فيهم حكمه، وكذا من استأجرهم، ونصب لهم السرادقات!

 

وإذ ليس ها هنا يقبل قول محض عقلي، وإذ كان بعيدًا عن أنوار النصوص القرآنية، وإذ كان مناوئًا للأحاديث النبوية.

 

وليس يغرنك قول قائل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ أحقَّ ما أخذتُم عليه أجرًا كتابَ اللهِ))[3].

 

ولأن هذا مجاله رقية أو تعليم أو نحوه، مما كان للأمة مفيدًا، راجعًا بخيري دنياهم وأخراهم، وعلى دليل وبرهان، لا استحسان عقلي، وهو ذاك الذي أورد الناس الموارد!

 

وناهيك عما كان في الأمر من إسراف وتبذير، وإذ ليس يقدم في الحكم أو يغيره أو يؤخره، لكنه ركام ومن فوقه ركام آخر، والله المستعان، وهم سبحانه الهادي إلى سواء السبيل.

 

فعن أبي سعيد الخدري: ((انْطَلَقَ نَفَرٌ مِن أَصْحَابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حتَّى نَزَلُوا علَى حَيٍّ مِن أَحْيَاءِ العَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ فأبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذلكَ الحَيِّ، فَسَعَوْا له بكُلِّ شَيءٍ، لا يَنْفَعُهُ شَيءٌ، فَقالَ بَعْضُهُمْ: لو أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا؛ لَعَلَّهُ أَنْ يَكونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيءٌ، فأتَوْهُمْ، فَقالوا: يا أَيُّهَا الرَّهْطُ، إنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا له بكُلِّ شَيءٍ، لا يَنْفَعُهُ؛ فَهلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنكُم مِن شَيءٍ؟ فَقالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ، وَاللَّهِ إنِّي لَأَرْقِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَما أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَصَالَحُوهُمْ علَى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عليه، وَيَقْرَأُ: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 1]، فَكَأنَّما نُشِطَ مِن عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَما به قَلَبَةٌ، قالَ: فأوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذي صَالَحُوهُمْ عليه، فَقالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا، فَقالَ الَّذي رَقَى: لا تَفْعَلُوا حتَّى نَأْتِيَ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَنَذْكُرَ له الَّذي كَانَ، فَنَنْظُرَ ما يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَذَكَرُوا له، فَقالَ: وَما يُدْرِيكَ أنَّهَا رُقْيَةٌ؟ ثُمَّ قالَ: قدْ أَصَبْتُمْ، اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لي معكُمْ سَهْمًا، فَضَحِكَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ))[4].

 

وإذ ما كان هذا البدع معروفًا، وإذ ولربما لم يكن في عقد الأولين الأفضلين متصورًا حدوثه، أو ممكنًا وروده! ولأن الناس قد أحدثوا من بعد نبيهم محدثات مبتدعات، ﴿ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ﴾ [النجم: 23].

 

ولكننا أيضًا نقف، وبكل إكبار لهذا الدين، وحين قدم صبيًّا عمره ما تجاوز ستًّا أو سبع سنين؛ ليؤم أمة محمد صلى الله عليه وسلم يومه ذلك! وفي برهان آخر أن قيمة العبد ليست في سنه ولا من عمره، وإنما فيما قدمه لهذا الدين، وفيما انتصب له، وحاله أنه عرف أن الله تعالى هو الرب الإله القادر العزيز الجبار المتكبر سبحانه.

 

وإذ كان حد التمييز سبعًا، وعلى دلالة هذا الحديث، وعلى برهان منه أيضًا.

 

وهذه حقوق الطفل في ديننا، وحين ترقى أعلى المراتب، ولا مرتبة في عرف الناس أعلى، ومما تبوأه طفل ذو ستة أو سبعة أعوام، خلت من عمره، وإذ ها هو الإسلام يقدم بين يدي العالم حقوق الأطفال، وحين أودعهم الناس يومهم هذا دور أحداثهم، وحين حملوهم ما ليس يطيقون من أعمال، أو اتخذوهم متاريس لحروبهم، أو عتادًا وعدة لقتالهم، والله المستعان.

 

وكما أنه تجوز إمامة الصبي، وحكمه، وكما أنه تجوز صلاة النساء في المساجد، وإنما خلف صفوف الرجال، وإنما كانت رؤيتهن است صبيهن، ولربما كان من فرجة، أو أن العدد كان قليلًا.

 

وكما أن فيه شرط ستر العورة في الصلاة.

 

وليس يقال: وكيف تأتمون ومن وراء صبي مميز، لم يستر عورته، ولما كانت شرطًا لصحة صلاتكم؟!

 

وأقول: إن استدراكًا في هذا ليس من محله ابتداء! ولربما كان قبل علم الأصحاب بحكم ذلك، أو لعل لباسه كان مؤديًا غرضه، ودون أعمال الصلاة، فاستشكل، ولما دخل الصلاة، ولأن حركاتها وأعمالها تحرك ثوبًا، فترفعه، أو تخفضه، أو تميله، وهذا أمر مشاهد، وخاصة أننا وما زلنا نتكلم حول صبي، لا يدرك ما يدركه الكبير، وإن تقدمه في إمامة الصلاة!

 

وكما أن فيه فقه نساء الأولين بأمور دينهن، قدوة تحتذى، وأسوة تقتدى.

 

وكما أن فيه قيمة الأذان، وحين كان أمر به من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أحَدُكُمْ))، إيذانًا بالصلاة، وأنْ قد آنَ أوانها، وأنه قد حان وقتها، وليقطع كل عبد آمن عملًا غيرها، ولأنه الله أكبر، وأنه تعالى فوق كل كبير آخر، وهذا محل الابتلاء، وها هنا موضع الاختبار، إلا من نام غافلًا، وإلا من نسي ساهًيا: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ [الكهف: 58]، وليصلها، وحين كان من أمره ذكرها؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَن نَسِيَ صَلَاةً، أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا))[5].

 

وفيه جواز مخاطبة النساء الرجالَ، وكما جمعا بينه وبين دلالة القرآن الحكيم، وحين جاز به سؤالهن متاعًا، وعلى شرطه، وجمعًا بين الدلائل أيضًا؛ وكما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾ [الأحزاب: 53].

 

وفيه إعانة الفقير، وكما اشتروا لصبيهم إمامهم قميصًا، وهذه أخلاق أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتلك مآثر المسلمين، يغيثون من كان ذا حاجة ملهوفًا، ويعينون محتاجًا، ويساعدون معدمًا، وينتشلون غريقًا، ويضمدون مجروحًا، ويداوون مكلومًا.

 

لكنك ناظر بعيني رأسك، وكيف أن صبيًّا كهذا رأينا كم قد كان هذا لباسه! وفي إشارة إلى رضا القوم بقيمة منحة ربهم وعطائه يومهم هذا، ويوم الناس هذا أيضًا، ولأن من خير الناس من رزق الرضا بمعطيات مولاه، وأن من أتقاهم من علِم أن الآخرة هي خير وأبقى.

 

ولأن القناعة سبب الفلاح، ولأنها موجب الصلاح، وهذا بيان فضلها ودونك برهان قيمتها ودرجتها، وعظمتها، ونبل صاحبها، ومن قد كانت وشاحه، ومن ذا قد أضحت رداءه؛ وحين قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ((قَدْ أَفْلَحَ مَن أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بما آتَاهُ))[6].

 

وانظر مصداق قولنا، ما كان من شأن الصبي، وحين اشتروا له قميصًا - قميصًا واحدًا - وكيف كان به فرحه، وكيف كان به رضاه! سترًا لعورته، وفرحًا بقميص كان واحدًا، وهو فرحة صبي، وغير صبي، ولكنه في حال الصبي أدعى، وحين يلبس جديدًا.

 

ولينظر أحدنا كم في دولابه من قمصان! وماذا هو فاعل وأمام فعل صبي، وماذا هو قائل ومن وراء قول صبي تراوح عمره بين السادسة والسابعة!

 

ودلك على صحة مذهبنا هذا ما رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى عَنْ أيُّوبَ، عن أبِي قِلابَةَ، عن عَمْرِو بنِ سَلِمَةَ، قالَ: ((قالَ لي أبو قِلابَةَ: ألَا تَلْقاهُ فَتَسْأَلَهُ؟ قالَ: فَلَقِيتُهُ فَسَأَلْتُهُ، فقالَ: كُنَّا بماءٍ مَمَرَّ النَّاسِ، وكانَ يَمُرُّ بنا الرُّكْبانُ فَنَسْأَلُهُمْ: ما لِلنَّاسِ؟ ما لِلنَّاسِ؟ ما هذا الرَّجُلُ؟ فيَقولونَ: يَزْعُمُ أنَّ اللَّهَ أرْسَلَهُ، أوْحَى إلَيْهِ - أوْ أوْحَى اللَّهُ بكَذا - فَكُنْتُ أحْفَظُ ذلكَ الكَلامَ، وكَأنَّما يُغْرَى في صَدْرِي، وكانَتِ العَرَبُ تَلَوَّمُ بإسْلامِهِمُ الفَتْحَ، فيَقولونَ: اتْرُكُوهُ وقَوْمَهُ؛ فإنَّه إنْ ظَهَرَ عليهم فَهو نَبِيٌّ صادِقٌ، فَلَمَّا كانَتْ وقْعَةُ أهْلِ الفَتْحِ، بادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بإسْلامِهِمْ، وبَدَرَ أبِي قَوْمِي بإسْلامِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ قالَ: جِئْتُكُمْ واللَّهِ مِن عِندِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَقًّا، فقالَ: صَلُّوا صَلاةَ كَذا في حِينِ كَذا، وصَلُّوا صَلاةَ كَذا في حِينِ كَذا، فإذا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أحَدُكُمْ، ولْيَؤُمَّكُمْ أكْثَرُكُمْ قُرْآنًا، فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أحَدٌ أكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي؛ لِما كُنْتُ أتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبانِ، فَقَدَّمُونِي بيْنَ أيْدِيهِمْ وأنا ابنُ سِتٍّ أوْ سَبْعِ سِنِينَ، وكانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ، كُنْتُ إذا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي، فَقالتِ امْرَأَةٌ مِنَ الحَيِّ: ألَا تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قارِئِكُمْ؟ فاشْتَرَوْا فَقَطَعُوا لي قَمِيصًا، فَما فَرِحْتُ بشَيءٍ فَرَحِي بذلكَ القَمِيصِ))[7].



[1] صحيح أبي داود، الألباني: 4985.

[2] صحيح مسلم :٢٥٧٧.

[3] صحيح الجامع، الألباني: 1548.

[4] صحيح البخاري: 2276.

[5] صحيح مسلم: 684.

[6] صحيح مسلم: 1054.

[7] صحيح البخاري: 4302.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/social/0/150820/#ixzz7D3sUWjyw