أجزم أنك سمعت وأنت في عمر السادسة أو السابعة عن قصة رجلٍ أمين أعاد مالًا وفيرًا لضيف غريب نسي هذا المال في بيته، فما كان من الضيف صاحب المال إلا أن أرجع له -جزاءً لأمانته- هذا المال.
أو عن الرجل الصادق الذي سرق تفاحة من مزرعة على الطريق فلما لقي -بعد وقت قصير- صاحب المزرعة بهذه السرقة واعترف له وأرجع له التفاحة، قال له المالك : وهبتك هذه الشجرة/المزرعة (باختلاف الروايات) جزاءً لصدقك.
تكلررت هذه القصة على أسماعنا العديد من المرات، في البيت والمدرسة، والهدف منها: تربيتنا على أن القيم هي طريق النجاة في كل موقف، وهذه القيمة صحيحة، لكن تطبيقاتها في القصص السابقة -والقصص الكثيرة غير المذكورة المشابهة لها- تطبيقات غير صحيحة.
بعد سماعي لهذه القصة وأنا في المرحلة الابتدائية، عزمت على تطبيقها بعد أن تم تكليفنا من مدرس أحد المواد بكتابة جملةٍ ما عشر مرات، فلما أن جاء موعد التسليم لم أكن قد كتبت إلا جملة واحدة، سأل الطلاب عن اللذي لم يكتبها؟ كان بإمكاني الهروب من هذا الموقف بالسكوت لمعرفتي بأنه لن يصحح الأوراق أصلًا، لكني كنت متحمسًا لتطبيق هذه التجربة اللتي سمعتها كثيرًا.
رفعت يدي -بكل أمانة وصدق- وأخبرته بأني لم أكتبها وذكرت له سببًا تافهًا منعني من كتابتها; على عكس توقعي تمت معاقبتي بشدة وتوبيخي على إهمالي، بل ومضاعفة الواجب من عشر جمل إلى ثلاثين جملة!
ظللت فترة طويلة أقارن بين الموقف الحاصل لي وبين ما كنت أسمعه وأعتقده تجاه هذه القيم! واكتشفت -لاحقًا- أن هذه القيم عظيمة، ولكن طريقة زرعها في نفوس المتربين تقلل من هذه القيم العالية!
الصحيح أن يقال: أن الصدق هو اللذي سينجيك إذا كذبت، سينجيك على المدى الطويل، ليس في نفس الموقف! قد تتم معاقبتك بسبب كذبك، ولكن صدقك هو من سيرفعك -حتى وإن تمت معاقبتك- !
وأن يقال أن أمانتك في مواقف كان بإمكانك تعزيز فيها حالتك المادية هي أمانة عظيمة، لكن ليس شرطًا أن جزاء الأمانة هو إرجاع هذا المال لك من صاحبه :)
الفكرة باختصار: لا تعوّد متلقي هذه القيم بأن يفعلها ويتعلمها لأجل مصلحة دنيوية، ولا لينجو من مأزق معين، جزاؤها أعظم وأكبر وعلى مدى طويل جدًا، والسلام.
" النيات الصحيحة هي الأصل في التماسك الأخلاقي، وبدونها لا يقوم للأخلاق بنيان"