أقام سلمان في الكنيسه مع الرهبان إلى غروب الشمس وهو لايشعر بمضي الوقت، فقد سيطرت عليه حالة من السرور أنسته كل شي ، فلم يفطن إلى وصية أبيه بألا يتأخر عليه ، بل لقد نسي الأمر الذي أرسله من أجله!!

أما أبوه الدهقان فقد شُغل باله على ابنه حين استبطأ مجيئه، فأرسل الناس في طلبه، فمضى بعضهم إلى ظاهر القرية وبعضهم إلى الضيعة فلم يجدوه ، وفتشوا عنه في سائر الأماكن التي تقع على طريقه، ثم عاد الجميع يخبرون أباه بأنهم لم يعثروا على أثر لغلامه ، فأصابه هم شديد ، وصار يضرب كفاً على كف ، وأسف أشد الأسف لإرساله إياه خارج " جَي" وحيداً.

وبينما هو على هذه الحالة من الهم الكبير ورجاله يحيطون به من كل جانب ، إذا بسلمان يدخل البيت ، فأسرع إليه واحتضنه وجعل يقلبه ، ثم أجلسه إلى جنبه وجعل يعاتبه ويقول : أي بني ، أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك أن لاتتأخر علي؟! وماذا حبسك عني حتى أدخلت علي هماً كالجبال؟!

واجابه سلمان ببراءه : ياأبت ، مررت بأُناس يصلون في كنيسه لهم، فأعجبني مارأيت من دينهم، فوالله مازلت عندهم حتى غربت الشمس !..

وذُعر الدهقان لما سمع ،وصاح في ابنه: أي بُني ليس في ذلك الدين خير ،دينك ودين آبائك خير منه!

وقال سلمان بجرأه وقوة: كلا والله ،إنه لخير من ديننا،هؤلاء قوم يعبدون الله ويدعونه،ويصلون له،ونحن إنما نعبد ناراً نوقدها بأيدينا،وإذا تركناها ماتت!

وأسكت الدهقان ،فلم يجد مايرد به على ابنه فقد أفحمته حجته،وألجمه عن الكلام منطقه ، وأعيته الحجة يقارع بها الحجة؛لذا لجأ إلى التهديد والوعيد ،وصاح في سلمان :أقسم بديني ودين آبائي العظام ،لئن غيرت دينك لأحبسنك ، ولأضعن القيود في رجليك حتى تدع هذه الضلالة التي هويتها.

اصنع بي ماتشاء فقد اتعبتُ هؤلاء على دينهم ، وواللهِ لا أدع هذا الدين القويم الذي هداني الله إليه مهما أصابني بسببه، وإنه لخير من دينكم ، وإنكم وآباءكم لفي ضلال بعيد!!.

واستشاط الدهقان غضباً مما سمع من ابنه، وأيقن أنه جاد في اتباع دينه الجديد ، وأن الوعيد لم يُخِفه ، وخشي هو على مكانته وسمعته في قريته ، فلم يجد بدّاً من تقييد ابنه وحبسه في بيته، لئلا يعلم الناس من أمره شيئاً فيفتضح أمامهم وهو الذي كان يباهي الناس به، وأرسل إلى رجال المعبد أن ابنه سيغيب عنهم فترة من الزمن في أمرٍ شَغَله.

مضت على سلمان أيام وهو في قيده ، وأبوه يراجعه صباح ومساء ، ويلح عليه أن يعود لدينه القديم ولوظيفته الرفيعة، لكنه كان يرفض بإباء ، واخيراً يئس منه، فشدد عليه قيده، وزجره زجراً قوياً وقال له: لاتزال هكذا حتى تراجع دينك القديم.

ولم تزد هذه المحنة سلمان إلا تمسكاً بدينه الجديد، ولم تزده إلا إصراراً على رفض دينه القديم، وتلقى الحبس والتضييق صابراً محتبساً ، سعيداً مطمئناً.

وفكر سلمان في الهرب بدينه إلى بلاد الشام التي خرج منها هذا الدين، فأرسل خادماً له - كان يحبه ويشفق عليه-إلى رجال الكنيسة يخبرهم بما جرى له مع أبيه وبما هو عازم عليه، فحزن الرهبان أشد الحزن لما أصابه ، وأرسل إليه كبيرهم : أنه كان يسعك أن تخفي دينك عن أبيك وتعبد الله خفية، وتتردد علينا حتى يأتيك الفرج من الله، وحبذا لو أنك فعلت ذلك الآن .

لكن سلمان بعث خادمه ثانية إلى كبير الرهبان: أنه لايسعه ذلك ، وليس بقادر على ألا يجهر بالحق ، وأنه يتوسل إليه أنه إذا قدم عليهم ركب مسافرون إلى بلاد الشام ؛ فليرسلوا إليه من يخبره ليهرب من بيت أبيه ، وينطلق معهم .

وأجابه كبير الرهبان ثانيةً جواباً ينصحه فيه بالبقاء قريباً منهم وأن يكتم إيمانه ،ويقول له: إن الناس في بلاد الشام قد غيروا وبدلوا ، وصاروا شِيعاً، وأنه لم يبق على الدين الحق غيرهم وغير أشخاص قلائل يعيشون في الصوامع في تلك البلاد.

وأرسل سلمان مرة ثانية لكبير الرهبان يقول له:

سيدي ،إنني لااستطيع البقاء في بلدي ، فأبي يريدني أن أعود قيماً لبيت النار، وأنا قد كفرت بالنار وبمن يعبدها وأبغضتهما بغضاً عظيماً، وليتني أستطيع أن أحيا إلى جواركم ، فما أسعدني إذاً! ولكنها امنية لست بمُدرِكها ، لذا فإني أتوسل إليكم أن ترسلوا إلي حينما يقدم عليكم ركب مسافرون إلى الشام لأذهب معهم ، ولعل الله يهيئ لي أخوة ومعلمين صالحين أمثالكم أعيش بينهم.

ولم يسع كبير الرهبان إلا أن يستجيب لهذا الغلام الصالح القوي في دينه ، فأرسل إليه : أن انتظر حتى يمر بنا ركب مسافرون إلى الشام، فنرسل إليك لترتحل معهم ، وفرح سلمان باستجابة كبير الرهبان له، وخفَت أحزانه ، وانتظر يترقب ساعة الخلاص .

مضت على سلمان عدة اسابيع وهو أسير قيده ، لايستريح منه إلا ساعات من الليل كان والده يطلقه فيها بعد أن يقفل عليه باب غرفته ، حتى إذا طلعت شمس اليوم التالي أمر والده بوضع القيد في رجليه ، ثم يخرج إلى عمله بعد أن يشيعه بنظرات الغضب الشديد.

وفي ليلة من ليالي تلك المحنة القاسية رأى سلمان وهو في نومه كأن القيامه قامت ، وأن الناس حُشروا على صورهم ، وحشر المجوس على صور الكلاب ، فأفاق من نومه فزعاً ، وأيقن أنه على حق في مفارقة دين قومه، ثم رأى من ليلته القابلة أن الناس قد حُشروا على صورهم ، وأن المجوس قد حشروا على صور الخنازير ، فزاد اعتقاده بضلال المجوسية ، وأصبح يقينه بدينه الجديد أثبت من الجبال الراسيات ، وتطلع إلى فرج قريب يمنُ به عليه المولى سبحانه .

وبعد صبر طويل مضت أيام المحنه القاسيه ، وفُتح باب الفرج ، وأفاق سلمان في يوم من الأيام على خبر سارٍ جداً ؛ فقد نقل له خادمه "مِهران" الذي يحبه ويعطف عليه ، رسالته من كبير الرهبان يقول فيها: احضر إلينا يوم كذا لتنطلق إلى بلاد الشام مع ركب مسافرين إليها.

كان خبراً ساراً جداً نسي معه سلمان كل أحزانه والآمه ، وحين جاء اليوم الموعود حل "مِهران " قيده ، فانفلت من بيت أبيه ولايشعر به أحد ، ثم أوى إلى الرهبان ، فرحبوا به أجمل ترحيب ، وهنأوه بالنجاة من القيد ، ثم قال له كبير الرهبان : كنا نود ياسلمان لو بقيت قريباً منا ، ولكن الأمور لم تتم على مانحب ونريد، ولقد أوصينا بك الركب المرتحلين، فانطلق معهم على بركات الله، ودُم على ماتعلمته منا من أمور دينك ، وإياك أن تبدل وتغير ، وابحث عمن هم مثلنا فالزمهم وكن معهم.

ثم ودعه وبقية الرهبان ، وانطلق مع التجار المرتحلين وهو يدعو الله أن ينجو من هذه البلدة الظالم أهلها ، وألا يُرد فيفتن بدينه .

وبعد أيام أحس سلمان أنه قد جاوز حدود بلاد فارس فسكن وجيب قلبه ، ونزلت عليه السكينه ، وايقن انه قد نجا، فلم يعد لأبيه سلطان عليه ، فليذهب هو وماله وجاهه إلى الجحيم ، ولتذهب قرية "جي" وأهلها وبيت نارها إلى الجحيم ايضاً ، فإنه غير نادم على فراقهم ، وإنه الآن ليشعر بالسعاده الكبيرة تغشى فؤاده وهو يعبد الله على بصيره ، ولا يجد أحداً يضطهده في دينه.

وطال سفر سلمان ، واحسن الركب صحبته ، ومر في أثنا سفره بكثير من صوامع الرهبان ، فكان يذهب إليهم ، فيسلم عليهم ، ويتمتع بالنظر إليهم، ويطلب دعواتهم ، وكان يعجب العجب الكبير من اجتهادهم بالعباده ، حتى أن أجسامهم لتكاد تنبري من هذا الصنيع ، وكم أسف على اولئك الذين تركهم في بيت النار يتعبدون لها، كم أسف على ما يصنعون من عمل باطل، وعلى مايبذلون من جهد ضائع، وكم رأى الفرق بعيداً بين هؤلاء الذين يعبدون الله على بصيرة، وأولئك الذين ضلوا في عبادتهم فلا يهتدون سبيلاً!

وأخيراً وبعد مسيرة مايزيد عن شهر من الزمان حط رجال القافلة في مشارف دمشق ، وقالوا لسلمان: هذه حاضرة بلاد الشام "دمشق" ادخلها بسلام آمناً ،وهنؤوه على نجاته وسلامته ،فشكر لهم على صنيعهم به ،وأثنى عليهم خيراً ،ثم دخل المدينة ولسانه يلهج بحمد الله وشكره ويدعوه أن يرعاه ويهديه سواء السبيل.

يتبع..🌿