كثيرة هي الأمور التي ندركها ونتحاشى ذكرها، ونغض الطرف عنها لسبب ما، ربما يكون حياء أو خشية نقد، أو مراعاة لبعض التقاليد والقيم، أو حفاظا على صورة المجتمع من الخدش، ولكن هناك أمور بلغ فيها السيل الزبى، ولم تعد النفس السليمة من الآفات التي تربّت على الفضائل، وحملت همّ المجتمع تحتمل الصمت والكبت والتحاشي، وهي ترى الفساد ينخر في صلب هذا المجتمع، كتلك الدّابة التي نخرت عصا سليمان، فلم تعرف الجنّ أنّه مات إلا عندما سقطت به العصا، لذا يجب وضع النقاط على الحروف، ورفع الصوت عاليا، محذّرا منذرا بالعواقب التي لا يعلمها إلا الله. والحديث هنا عن هذا التطور التقني الحديث الذي اجتاح العالم ومنه عالمنا ومجتمعنا. فمنا من أحسن استغلاله ومنا من أساء، وكانت الإساءات وبالا عظيما. وبخاصة في مجال التواصل الاجتماعي .


لم يكن حالنا القديم بمثل حالنا في هذا التطور ، فكان علينا سيفا ذا حدين، نعمة و نقمة ، وما كانت هذه الفضائح العلنية والتدني الخلقي والمساس بالشرف موجودة، أو تشكل ظاهرة محسوسة ملموسة لكل ذي بصر وبصيرة. وإن كان منها حالات وقعت فقد كانت قليلة خفيّة غير مشتهرة. وقد كان الحديث عنها أو فيها أمرا مروّعا وموضوعا غير قابل للنقاش أبدا ، رغم أن الأدباء والشعراء العرب قد تلمسوا بعضها فحاولوا أن يردّوا الناس إلى جادّة الصواب، لذا شاع قول شوقي :

وَإنَّما الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَت فَإِنْ هُمُ ذَهَبَت أَخلاقُهُم ذَهَبُوا


واليوم علنا خرجنا عن المألوف، وأصبح الحديث عن الفساد والتحذير منه من الضرورات، ذلك لأن الفساد الخلقي قد شاع ويكاد يكون مألوفا، وأصبح الحديث عن الشرف أمرا في غاية البساطة والسهولة، وأكبر دليل ما نشاهده على شبكة التواصل الاجتماعي والتي أطلق البعض عليها مسمى آخر وهي: شبكات التواصل الفاسد. رباه أيّ زمن هذا الذي بلغناه؟ وما السرّ في ذلك؟ أهو قلة دين أم قلة رقابة من أولي الأمر، أم أنّ الشعب كان مهيّأ لهذا الضلال، فجاءه على طبق من ذهب؟ أم أننا فقدنا الرجال في هذا الزمن فاصبحت النساء بلا قوامة؟ والأسرة بلا راع؟ أم أن ضعف الأخلاق جاء نتيجة ضغوطات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي هوت بنا الى التفريط بأعز ما نملك من أجل لقمة العيش؟، تُرى هل لكورونا الفضل في كشف المستور وإظهار المدفون؟ نعم، قد يكون لكل فرد منه هذه الأسباب سهم في هذا الانحدار، أمّا أزمة كورونا التي توشك على الوقوف على أبواب عامها الثالث، فقد فعلت فعلتها، وأكبر دليل على ذلك أنها كشفت لنا حجم الوحل الذي كنا نغرق فيه، أظهرت لنا مدى معاناتنا، والطقوس السيئة التي كنا نحاول أن نتعايش معها، ولربما انطلق من هنا الى جائحة البطالة التي خلفتها وراءها، والتي كانت أحد الأسباب القوية في إظهار المشاكل الاجتماعية والانحلال الأخلاقي الشنيع، والذي أصبح الآن كارثة بشرية أخطر وألعن من موجات المرض الكوروني التي تمرّ بها البلاد والعالم أيضا .


قد أتفهم أن بلاد الغرب ودولة الاحتلال لديهم تقاليد مغايرة لما عليه نحن وبلاد المشرق، ولكنّ حالنا اليوم تقول إننا تفوقنا عليهم في الانحلال الاجتماعي والتدهور الأخلاقي؛ فهل الانفتاح كان سببا كبيرا لاقتباس بعض التقاليد أم أننا في وقت لم نعد نعلم فيه من نحن وما هويّتنا؟ وما هي تقاليدننا؟ وما الظروف التي آلت بنا الى هذه الحياة ؟ هناك من يفرط بشرفه علنا، وهناك من تعرِض جمالها على الملأ دون حياء، وهناك من يسقط النساء في مواقع التواصل الاجتماعية، عدا عن انتشار الفيديوهات االمنحطّة وتداولها، وماذا أقول بعد ....؟


وهنا يجدر التنويه إلى أن الأطفال في خطر داهم، فهم أو كثير منهم يتعرّضون للتحرش بجميع أنواعه وأشكاله من خلال منصات التواصل الاجتماعي، إذ يدخلونها بلا رقيب أو قيود، والتي بدورها، تستنزف طاقاتهم فيما لا فائدة فيه، ولعلها تُحدث تغذية راجعة سلبيّة، سواء على عقولهم أو من خلال بناء نفسياتهم، وهذا ينذر بمستقبل بائس لأجيال قد تخرج على الدين والأخلاق .

إذن أين التربية؟ أين الرقابة المشددة من الأهل على أبنائهم ؟ أين المعلمون المربون؟ أليس لهم الدور الأكبر في اٌصلاح الأجيال ودرء الأخطار؟ خصوصا أن اغلب الدروس اليوم أصبحت من خلال استعمال الانترنت!

نعم أرى انّنا في ذهول أمام ما يجري من أحداث مروعة، ولعل حالنا قد انقلبت رأسا على عقب، والتغيرات قد مالت بنا الى النقم لا إلى النعم المنتظرة، فقد خابت آمالنا وتعثر حالنا وفقدنا ما يؤهلنا للمراحل القادمة من الازدهار .


علّنا نخرج من هذا الوحل ومن القضايا غير الأخلاقية التي قد امتلأت المحاكم ومراكز الشرطة بها، وأدت الى تدمير العديد من البيوت، وتدهور المجتمع والأسرة؛ ولن يكون لنا ملاذ إلا العودة الى ديننا الحنيف ، والاقتداء بأخلاق سيد الأمة محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال فيه ربّ العزّة جلّ وعلا في كتابه العزيز "وَإنَّكَ لَعَلى خلق عظيم".

أمّا من المسؤول وعلى من تقع تبعات ما نحن فيه، فأقول تقع علينا جميعا من الحاكم إلى الشيخ إلى المعلم إلى ربّ الأسرة وغيرهم ، قال عليه الصلاة والسلام : " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".