في غرفة انتظار مصغّرة، بمحاذاة مكتب الطبيب، يجلس سطّام على كرسي حديديٍّ متصلٍ بكراسٍ اخرى. لاشيء هنا أفضل من شيء، كل الكراسي تتشابه، يضجّ بال سطّام بهموم متفاوتة، أبرزها الآن: أن تظلّ هذه الغرفة شاغرة من أي مخلوق لينعم بالهدوء. تركَ الحرية لأقدامه تسير به ناحية كرسيّ عشوائي. لحظة اختياره تلك، وثبت إلى دماغه مسألة فلسفية، مسألة الحرية هذه. لماذا سارت أقدامه إلى هذا الكرسيّ وليس ذاك: هل أنا اخترت أما قدماي؟ وبناء على ماذا؟، وما نوع حرية الاختيار هذه؟. تبعثرت فكرته حين ولج إلى الغرفة ما يملؤها، هامة ضخمة لها امتدادات. يتوسط هذه الصالة الصغيرة رجل فارع الطول منحنٍ، ببشرة سمراء داكنة، يسير بخطىً تُنبئ عن جرأة وهُزء. الأزارير في مقدمة ثوبه بدت أكثر مما يجب، لاشك أنه بطول مترين أو أكثر، هذا تخمين سطّام المبدئي.


يسلّم الرجل الطويل، ويأتي رد السلام فاترًا. ينظر سطّام إليه ويطيل النظر، إذ في الرجل الأسمر الطويل ما يغري بإمعان النظر. قوامه المنحني كعمود إنارة؟ أم ثوبه الفضفاض الهائل الذي يميل للصفرة. لعلها تلك الملامح المرسومة بإتقان، وحدودها الواضحة التي تشبه رسمة بقلم رصاص غليظ. وما بال تلك الابتسامة الهازئة المتوارية خلف الشفاه؟ وهل أسنانه الناصعة طبيعية أم تركيب؟. يخمّن سطّام أنهما متقاربان في العمر، بداية الأربعين على ما يبدو، أو ربما كان الرجل الطويل أكبر بسنتين أو ثلاث.


  • عبدالرزّاق.. اسمي عبدالرزاق
  • هلا حياك الله


بشكل مباغت يزداد الألم في عنق سطّام، ويشعر بصداع. هذا النمط من المواقف هو ما كان يتحاشاه دائما، هذا النوع من الناس المفاجئ والغريب هو ما ينفر منه سطّام. من الأفضل ألا نتيح المجال للحديث مع الغرباء، هكذا كان يفكّر. بل من الأفضل أن لا نتيح المجال لأي حديث مع أي أحد، مالذي يدعو البشر للحديث؟ لماذا يلوكون ألسنتهم ويصدرون تلك الأصوات التي تبعثر صمت الكون الرخيم.

  • الدكتور عماد موجود؟

أجابه سطّام:

  • قالوا بيرجع للعيادة بعد نصف ساعة.


ينظر سطّام في هاتفه باهتمام، يتصفح تقريرًا ماليًا لاحدى الشركات. يحافظ على تركيزه في القراءة ويقارن جدولا من الجداول بآخر، أو هكذا أراد أن يعتقد في نفسه. أحيانًا ينظر بشرود إلى أعلى، ثم يعيد النظر إلى هاتفه. يتذكّر نصيحة الدكتور عماد، فيستعيد استقامة ظهرة وعنقه، ويغلق جواله مؤقتًا للراحة. يجب أن يُريح رقبته من النظر الخاطئ والجلوس الخاطئ. لقد طال هذا السقم، ما نفع كل تلك الأشعة والمضادات والمراهيم طوال سنتين؟ لاشيء. الحل الوحيد -بزعم أولئك الأطباء- هو في تغيير سلوك الحياة: اترك جوالك، غيّر مكتبك، غيّر تفكيرك.. إلخ. وعبدالرزاق هذا، هل يعاني من آلام الرقبة؟ فكّر برهةً في جليسه هذا، ثم اختلس نظرً إليه: ياساتر، لديه رقبة ممتدة، ورأسه يتدلّى من رقبته كقنديل، لا شك أنه آلامه في العنق عنيفة.


يقلّب عبدالرزاق بين أصابعه مسبحة صفراء بهجية، أضافت لصورة يده تباينًا لونيًا مشبّعا: أصابع سمراء نحيلة، وسبحة صفراء فاقعة، والخاتم الفضي المزركش يلمع متربعًا على عرشه، كملكٍ متوّج. يقلّب عبدالرزاق بصره إلى كل ناحية في غرفة، بفضولٍ بيّنٍ وهدوءٍ تام. في هذه الأثناء، لم يكن سطّام سوى كتلة من الاستياء، متحجّرة ومتكوّرة هناك على كرسي حديدي بارد. لينفّس عن استيائه أخرج هاتفه ونقر بعض الأرقام للاتصال...


صوت عبدالرزاق الكثيف يملأ الغرفة:

  • ماراح يردّون عليك الراجحي

يتعمّد عبدالرزاق الصمت في لحظات كهذه، ليطيل زمن اللذة، لذّة النظر إلى فريسة مرتابة. ثم يضيف في الوقت المناسب:

  • كنت شغّال معهم، هذا الوقت ما يردّون، تنتظر نصف ساعة


تشتدّ حيرة سطّام، وهو -مع ذاك- يُظهر ثباته، ويواصل انشغاله بالجوال، متجاهلاً طنين الأسئلة: كيف عرف اتصالي بالراجحي؟ من هذا الرجل وماذا يريد مني؟


  • عندك ألم بالرقبة صحيح؟

يجيب سطّام على وجل مما سيجيء:

  • صحيح
  • الدكتور عماد ممتاز. بيننا رفاقة، في الواقع هي أكثر من رفاقة، تقدر تقول: علاقة ممتدة لأجيال. كان جدّي شغّال عنده جدّه، في ذلك الوقت كان يسمونهم عبيد. هذا الكلام قديم، تعرف الحين وش يسموننا؟ برضو عبيد.

تنطلق ضحكة ضخمة من حلق عبدالرزّاق، ضحكة مرحة ومجلجلة. يضيف كمن يريد أن يستدرك:

  • لالا.. الحين اسمنا الخوال.

يتضاعف ضحكه وتتحرك أطرافه بشكل ملحوظ. يرقبه سطّام بعناية، يراوده شعور بالضحك، وفي أعماقه شعور يحثّه على الهرب، ولكنّه يتسمّر في كرسيه كمن هاجمته أفعى في منامه.


  • تعرف وش علاج الرقبة عند جدي؟

يجيبه سطام وقد التقط السؤال الماكر، وقرر الاندماج في جوّه الضاحك:

  • لا، وشو؟
  • جدي يقول ادهن مكان الألم ببول بنت أم 16 .. يقول ان بول العذارى فيه شفاء


دار المشهد في مخيلة سطّام، وشعر بالقبح. ومع ذاك فقد فلتت منه ضحكة غريبة.

  • اسمع وأنا أخوك، كل رقم في الجوال والتلفون له صوت محدد.. الخمسة لها صوت، الستة لها صوت، الصفر له صوت، كل واحد مختلف عن الثاني. اتصل الآن بأي رقم وراح أعرف الرقم..
  • اها
  • اتصل الآن عشان تشوف
  • لا خلاص فهمت ما يحتاج
  • يارجل عندي مهارات مالها أي فايدة

يضيف عبدالرزاق باسترسال ضاحك:

  •  حياتي عبارة عن أشياء مالها فايدة.. مهارات مالها داعي.. الاسم الكريم يالطيب؟
  • سطّام
  • يا مرحبا سطّام..


ينهض عبدالرزاق من مكانه ويضع المسبحة في جيبه، ثم يتجه ناحية سطّام ويجلس بالقرب منه. وبطريقة سينمائية سريعة يمد أصابعه النحيلة والطويلة إلى ثوب سطّام وينتزع منه أحد الأزارير في صدره. ينكمش سطّام وتعلوه نظرة ذعر وحذر، ولكن الابتسامة على محيّا عبدالرزاق تجعله ينتظر ولا ينفجر.

  • اسمعني يا سطّام

يضع عبدالرزّاق الزرار الأبيض على راحة يده كمن يستعرض حيلة سحرية، وبيده الأخرى يخرج من جيبه ورقة نقدية فئة 500 ريال، ويضعها على الطاولة أمامهما.

  • أنا جايك برزق مكتوب لك. إذا قدرت ترفع الزرار هذا بيدك اليسار، فالخمسمية لك.
  • تستهبل؟
  • والله اني جاد.. وهذي الخمسمية قدامك
  • يابن الحلال أنت وش تبي؟ معليش وش الصعوبة في رفع زرار؟
  • أنا أقولك.. أبيك تمدّ ذراعك اليسار بشكل كامل، ثم تقلب راحة يدك لأسفل، وتحاول ترفع الزرار مسافة 20 سم بس عن مستوى كتفك. جرّب


ينهض سطّام ببطء، ويأخذ الزرار بيده. يفرد ذراعه كما قال صاحب الرهان ثم يقلب كفّه.

  • يا سطام اصبر.. إذا ما قدرت ترفع الزرار كم لي؟
  • أحط زيك، خمسمية
  • لا لا، تضحك علي؟ أنا صاحب المخاطرة.. وشغلتك سهلة. اسمع، أنت تحط ألفين
  • اتفقنا


تظهر على سطّام ملامح جديدة تمامًا، يبدو مرحًا ومندفعًا بالتحدي. يضع الزرار على راحة يده ثم يهمّ برفع ذراعه عن مستوى كتفه فيصرخ كمن لسعته كهرباء، يسقط على الأرض ويتلوى من الألم، يتأوّه ويضحك في وقت واحد، والزرار يتدحرج تحت أحد الكراسي. وعبدالرزاق واقف بجانبه يهتزّ من الضحك وتتداخل أطرافه بصورة مريبة.


  • آه يا رقبتي، آه آه
  • ههههه قم قم
  • أقسم بالله حسيت انه وزن الزرار 2 طن
  • شف.. أول شيء: أنت خسرت ألفين ريال. حلو؟ ثاني شيء: علاجك عندي
  • فكّنا من بول العذارى أرجوك
  • لالا.. علاجك عندي، بس بشرط، لا تقول للدكتور عماد عني شيء.
  • وشو علاجك؟
  • الموضوع في الأعصاب، عندي خبرة في هذا الشيء، جدي في زماناته كان يحترف العلاج الشعبي. ممكن توقف هنا يا سطّام؟
  • لازم تقولي أول وش تبي تسوي!
  • يا آدمي لا تخاف. راح أضغط على العصب في ظهرك، لا تخاف
  • يعني العلاج في ضغطة على الظهر؟ طيب إذا أنت خبير ليش ماتعالج نفسك
  • ما جيت عشان العلاج
  • أجل ليش؟
  • هذي قصة ثانية.. خلنا في رقبتك، تبي علاج ينهي الألم مرة وحدة؟ ولا تبي تكمل مع علاجاتهم وأشعتهم؟
  • أبي علاج الآن
  • قم وقف قدامي هنا


ينهض سطّام ليقف أمام عبدالرزاق، أحد أزرة ثوبه مخلوع وتظهر الفانيلة أسفل الرقبة، وشماغه على الأرض، بدا كأنه قد انخرط في شجار للتو. يقترب عبدالرزّاق منه ويحيطه بذراعيه. وبنبرة ماكرة يقول:

  • لا تخاف.. راح أحضنك بحب

يضجّ سطّام بالضحك ويدفعه قائلا:

  • هذا علاجك؟ صاحي أنت؟

تمتد ذراع عبدالرزّاق الطويلة نحو خصر سطام وتجذبه إليه، يفتعل عبدالرزّاق ملامح الرجل الشرير بطريقة مضحكة، فيزداد ضحك سطّام. تلتفّ أصابع عبدالرزّاق على مريضه كما يفعل الاخطبوط.

يجذبه إليه ويقول بنبرة خافتة:

  • ريلاكس.. ريلاكس

ينفجر سطّام بالضحك. ثم هو يتخيل منظره عالقًا في عيادة في صالة إنتظار، بين يدي رجل أسود عملاق، يلفّ أصابعه على خصره ويقول (ريلاكس ريلاكس) ليعالجه من ألم الرقبة، ينظر إلى نفسه كما لو كان ينظر من كاميرا مراقبة، فتزداد هستيرية الضحك.


  • سطّام.. لازم تهدأ عشان أقدر أعالجك

ثم يضيف عبدالرزاق عبارة متأخرة، هامسًا بخبث للرجل الذي بين ذراعيه:

  • ياحبيبي


فيزداد سطّام، ويطلق عبدالرزاق ضحكته المجلجلة.

بعد ضحك طويل من الطرفين، يقف سطّام باستقامة مستعدًا للعلاج، يأمره عبدالرزاق بالاسترخاء ثم يجذبه برفقٍ ناحيته ويضغط على أعلى ظهره بقوة عدة ضغطات، ثم يضغطه ضغطة واحدة لها صوت قرقعة. يداهم سطّام شعور بالخدر والدوار، فيسنده عبدالرزاق إلى الجدار، يشعر بالتنميل في أطرافه فيجلس.


في الممر، تنادي الممرضة على اسم سطّام فلا يجيب. تحضر لغرفة الانتظار فتراه على الأرض، وتسأل بقلق إن كان بخير.


  • سطّام لازم أمشي.. لا تنسى، لا تجيب سيرتي عند الدكتور
  • اصبر.. هذا مبلغ الرهان. وهذا كرتي نتواصل


في هذه الأثناء يخرج عبدالرزاق بخطوات مسرعة، خطوات لا تشبه دخوله المتسكّع ذاك.


في العيادة يسأله الدكتور عماد:

  • كيف حالك الآن يا سطّام؟ عسى العلاجات نفعت


لايزال سطّام يشعر بالذهول، ولا تزال تحوطه هالة من الضحك الهستيري تظهر في عينيه وفي حروفه.


  • في الحقيقة يا دكتور أنا.. مادري كيف أقول! أنا تشافيت قبل دقايق. أدري ما راح تصدق، بس هذا الي صار.
  • ممكن توضّح؟
  • باختصار، صادفت رجل أثناء الانتظار، رجل غريب عجيب.. عالجني بحضن الحب كما يقول.

يضحك سطام ويضيف:

  • أقولك شيء يا دكتور؟ أنا أول مرة أضحك بهذه الطريقة من 20 سنة، أول مرة أذوق هذا الشعور من زمن بعيد. أشعر اني سعيد وان الألم اختفى.


يسأل الدكتور بنبرة خالية من التعاطف أو حتى الدهشة:

  • أنت قلت حضن الحب؟
  • هههه نعم

يرفع الدكتور صوته:

  • يا سستر، عبدالرزاق جاء العيادة أثناء غيابي؟

تجيبه بالنفي، ويتحدث سطّام بتعجب:

  • تعرف عبدالرزاق؟
  • هل أخذ منك مبلغ مالي؟
  • نعم، ولكن الموضوع مختلف عن الي ببالك
  • الملعون
  • لوسمحت ممكن افهم؟ هل تعرف الرجل؟
  • أعرفه زين.. متربين في بيت واحد. المهم سأعيد لك المبلغ الآن
  • لالا أرجوك. المبلغ له قصة مختلفة، دخلنا في رهان وفاز به، هو تحداني ب500 ريال
  • ورهانات بعد؟.. أنت تعرف انه يجي للعيادة عشان يستلف فلوس. الخمسمية الي تقول هي تقريبًا كل ما يملك
  • عجيب


ينهض سطّام من سرير الطبيب، ويقول بارتياح:

  • أحس اني ما أحتاج علاج. الصدق، أحس اني متعافي ومبسوط
  • بالأحرى أنت متعافي لأنك مبسوط