من أدلة جوازه حديث, {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة}،
ولنا إن شاء الله مع هذا الحديث وقفتان:
الأولى, في صنيع الأئمة في إيراده في تبويباتهم، ونصوص بعض السلف القدامى في تفسيره.
الثانية, في النص على جوازه مع القول بإغلاق باب الاجتهاد.
أولا-- قد روى هذا الحديث مسلم وغيره، وترجم له النووي رحمه الله في تبويب صحيح مسلم "بَابُ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً وَمَنْ دَعَا إِلَى هُدًى أَوْ ضَلَالَةٍ""، ينظر صحيح مسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي, (4/2059)
وهذا لفظ مسلم:
15 - (1017) حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ، وَأَبِي الضُّحَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلَالٍ الْعَبْسِيِّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمِ الصُّوفُ فَرَأَى سُوءَ حَالِهِمْ قَدْ أَصَابَتْهُمْ حَاجَةٌ، فَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَأَبْطَئُوا عَنْهُ حَتَّى رُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ جَاءَ بِصُرَّةٍ مِنْ وَرِقٍ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، ثُمَّ تَتَابَعُوا حَتَّى عُرِفَ السُّرُورُ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «§مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ».
ثم ذكر مسلم رحمه الله متابعات للحديث، ثم روى عن أبي هريرة فقال:
16 - (2674) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «§مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»، (4/2060)فصنيع الإمام مسلم كان بذكر متابعات لحديث جرير، ثم روى حديث أبي هريرة.وقد بوب النووي رحمه الله بترجمة تشمل اللفظين، فهل هذا العطف في الترجمة يفهم منه المغايرة؟ وهل كان هذا هومقصدالإمام مسلم من إيراد اللفظين؟
والمتتبع لمن روى الحديث في كتابه من الأئمة غير مسلم يجد أنهم وافقوا مسلما رحمه الله في إيراده للفظين،فمثلا, الترمذي رحمه الله أورد هذه الترجمة في كتاب العلم فقال:"بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ أَوْ إِلَى ضَلاَلَةٍ
".
أورد فيه (4/340) بتحقيق بشار عواد معروف حديث أبي هريرة فقال:
2674 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ العَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ ..."
فذكر لفظ أبي هريرة عند مسلم.
وقال عنه بعد ذلك:
"هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ".
وهو لفظ كما علمت فيه ذكر أجر الدعوة إلى الهدى، ووزر الدعوة إلى الضلال.
ثم ذكر الحديث السابق في صحيح مسلم من حديث جرير رضي الله عنه بذكر الاستنان.
وابن ماجه رحمه الله أورد في مقدمة سننه (1/73) بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي هذه الترجمة فقال:
"§بَابُ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً".
أورد فيه لفظ مسلم المتقدم ونحوه من حديث أبي هريرة بذكر الاستنان، ثم أورد في الباب ذاته من حديث أنس فقال:
205 - حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ الْمِصْرِيُّ قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَالَ: «§أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ فَاتُّبِعَ، فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا، وَأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ، فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا»، (1/74).
ومن حديث أبي هريرة أيضا (1/75): بنحو حديث أنس، وهو لفظ مسلم بذكر أجر الدعوة إلى الهدى، ووزر الدعوة إلى الضلال.
ثم عاد لذكر الاستنان المذكور في حديث جرير ولكن من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه برقم, 207.
وكذلك فعل الدارمي رحمه الله في سننه بتحقيق حسين سليم أسد فذكر في سننه (1/443) ترجمة قال فيها:
"§بَابُ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً".
أورد فيه حديث جرير رضي الله عنه برقم 529، بذكر الاستنان، وبرقم 530 حديث أبي هريرة عند مسلم بذكر الدعوة إلى الهدى.ثم عاد إلى حديث جرير من طريق أخرى برقم 531 في ذكر الاستنان، ثم أورد من مراسيل حسان بن عطية الحديث رقم 532 فقال:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ هُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «§أَنَا أَعْظَمُكُمْ أَجْرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ لِي أَجْرِي، وَمِثْلَ أَجْرِ مَنِ اتَّبَعَنِي»ثم أورد من حديث أنس الحديث رقم 533 فقال:
أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ بِشْرٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " §مَنْ دَعَا إِلَى أَمْرٍ وَلَوْ دَعَا رَجُلٌ رَجُلًا، كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَوْقُوفًا بِهِ، لَازِمًا بِغَارِبِهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] "ومن حديث ابن مسعود فقال:
534 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «§أَرْبَعٌ يُعْطَاهَا الرَّجُلُ بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُلُثُ مَالِهِ إِذَا كَانَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ لِلَّهِ مُطِيعًا، وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ يَدْعُو لَهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، وَالسُّنَّةُ الْحَسَنَةُ يَسُنُّهَا الرَّجُلُ، فَيُعْمَلُ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْمِائَةُ إِذَا شَفَعُوا لِلرَّجُلِ شُفِّعُوا فِيهِ»فأنت ترى أهل العلم المترجمين لأبوابهم بأنفسهم وافقوا مسلما رحمه الله في رواية اللفظين, لفظ الاستنان، ولفظ الدعوة، فمنهم من ترجم بلفظ أجر الدعوة إلى العمل على اللفظين، كالترمذي، ومنهم من ترجم بلفظ الاستنان على اللفظين، كابن ماجه، والدارمي، فوافقوا مسلما في روايته للفظين وإن لم تكن الترجمة له، وهذا يدلك على أن معنى اللفظين واحد، وإن كان أحد اللفظين مشكلا، فتفسره الرواية الأخرى، بناء على القاعدة العلمية أن روايات الحديث يفسر بعضها بعضا.
ولئلا يقول قائل: هذا مجرد استنباط يستفاد من النقل الآتي من شعب الإيمان للبيهقي رحمه الله، فقد أورد في ترجمة له فقال (9/231):
"§بَابٌ فِي السُّرُورِ بِالْحَسَنَةِ وَالِاغْتِمَامِ بِالسَّيِّئَةِ"
أورد فيه بأسانيده حديث: {§كُتِبَ لَكَ أَجْرَانِ, أَجْرُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ}.
ثم قال (9/239):
"قَالَ الْحَلِيمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، أَنَّ مَعْنَاهُ: فَإِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ سَرَّنِي لِيُقْتَدَى بِي، وَيُعْمَلُ مِثْلُ عَمَلِي، لَيْسَ أَنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يُذْكَرَ وَيُثْنَى عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا " وَكَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يُصَلِّي، فَرَآهُ جَارٌ لَهُ، فَقَامَ يُصَلِّي، فَغُفِرَ لِلْأَوَّلِ، يَعْنِي أَنَّ الثَّانِيَ أَخَذَ عَنْهُ وَتَابَعَهُ".
إلى أن قال (9/239-240):
وَالَّذِي رَوَاهُ الْحَلِيمِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، فَقَدْ رُوِّينَاهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ كَمَا : 6610 - أَخْبَرَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ الْأَصْبَهَانِيُّ، نا أَبُو الطِّيبِ الْمُظَفَّرُ بْنُ سَهْلٍ الْخَلِيلِيُّ الْقَائِدُ، بِمَكَّةَ، نا إِسْحَاقُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ حَسَّانَ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ، وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَأُسِرُّ الْعَمَلَ، فَإِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ سَرَّنِي؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " §لَكَ أَجْرَانِ، أَجْرُ السِّرِّ، وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ "قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: هَذَا مِنْ أَجْوَدِ الْأَحَادِيثِ وَأَحْكَمِهَا لِرَجُلٍ يُسِرُّ الْعِبَادَةَ فَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ مُطَّلِعٌ فَيَعْمَلُ بِمِثْلِ عَمَلِهِ فَسَرَّهُ إِذَا بَلَغَهُ أَنَّ فُلَانًا قَدْ عَمِلَ بِمَا عَمِلْتَ، وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: §" مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا"
فهذا تفسير بعض السلف للحديث، يوافق صنيع الأئمة في تراجم أبوابهم، وإليه يرد كلام الشافعي رحمه الله في قوله عما له أصل وعما ليس له أصل، وبه تجتمع الأدلة.
ثانيا-- يقال لمن جوزوا أو استحبوا فتأولوا الحديث:
التجويز أو الاستحباب حكم شرعي، والدعوة في أوساطكم عريضة بإغلاق باب الاجتهاد، فالحكم الشرعي لا يثبت إلا بدليل صحيح صريح، إذ الأصل في العبادات المنع إلا بدليل، فيقال لكم: تجويزكم للمولد النبوي لا يمكن إلا أن يكون بأحد طريقين, إما أن يكون عن توقيف، نحتاج أن نعرفه، وإما أن يكون عن اجتهاد، فدعوة إغلاق باب الاجتهاد عريضة في أوساطكم.
وتجويزكم له بلا دليل صحيح صريح بهذا الدليل المتأول المحتمل بأحدى هتين الدعوتين يسقط تجويزكم له من أساسه، إذ لا توقيف، بل أدلة عامة محتملة، وإما إن أبطلتم دعوى غلق باب الاجتهاد فقلتم هو اجتهاد على أصول عامة وأدلة عامة لا تخرج عن مقاصد الإسلام، فيرد عليكم صنيع الأئمة المتقدم في تراجم تبويباتهم عن الحديث المتقدم، وتفسير من وافقهم في تفسير السنة الحسنة، هذا مع هدمكم لباب عريض من أبواب البدعة وهو البدعة الإضافية، وتخصيصكم لعموم أحاديث بغير مخصص قطعي الدلالة, وهي النصوص التي فيها كل بدعة ضلالة، فتأويلكم للحديث المتقدم غير مسلم لكم كما تقدم، فالموالد إذن ليس لها أصل شرعي تبنى عليه، والله أعلم.