كم كانت رحله ممتعة التنقل عبر صفحات عمر هذه المرأة التي أقل ما يقال عنها انها "المرأه الفولاذيه".هذا الكتاب الذي سقط أمام عيني بمحض الصدفة بسبب متابعتي لسلسلة ” مجلة علم وخيال“ والتي رشحت شراء هذا الكتاب من معرض الكتاب ٢٠١٦ ... لأول مره انبهر بحياة و إنجازات إمرأه. مانيا سكلاودوفسكا الشهيرة بماري كوري العالمة العظيمة و أول مرأة تحصل علي جائزة نوبل و أول شخص يحصل علي جائزة نوبل مرتين و في مجالين مختلفين (الفيزياء و الكيمياء) .. انبهاري بها ليس لأنها اكتسبت الشهره و فازت بأعلي جائزة علميه مرتين! ولكن انبهاري و إعجابي كان لأنها عاشت في فتره لم تكن فيها المرأه لها حق للتعليم و كان دور المرأه مقتصر علي "تربية الاطفال و مراعات شئون الزوج فقط!!" ... هذه المرأه اثبتت و بجدارة فشل هذه النظرية ... ان النساء غير مؤهلات فيزيائيا أو ذهنيا للدخول إلي قوة العمل "مالهمش غير في الطبيخ والامور البسيطه" ... بل وليس هي وحدها بل هي وإبنتها "إيرين" وحفيدتها "هيلين" .. كانوا من أبرع و أشهر النساء في المجال العلمي في القرن الماضي .. و حتي هذه اللحظه لم يبرع أحد مثلما برع "أل كوري" و بالرغم من حياتها المؤلمة التي تكاد ان تكون تعيسه في اوقات كثيره و مرورها بمراحل اكتئاب عديده .. استطاعت هذه المرأه العظيمة ان تحقق ما هو من وجهة نظري "الهدف من وجودنا في هذه الدنيا" وبالرغم من هذا لم تكن تحب التفاخر بنفسها او جعل نفسها أسطوره يتحاكي عنها الناس بل كانت تعتبر نفسها شخص عادي .
في هذه السطور القادمة سأسرد قصتها من خلال ما قرأته في الكتاب .. ولكنني أوصي و بشده قراءة الكتاب كله فلن تسعني السطور لسرد كل شئ او تفاصيل مهمه كثيره ولكن سأحاول بكل قوتي ذكر مراحل حياتها بإختصار شديد لـ من يحب ان يعرف المزيد عن هذه المرأه.
ماري كوري بولندية الأصل عاشت و عاصرت فترة ثورات دموية كان فيها محاولات للقضاء علي التراث و الثقافه و حتي اللغة البولندية من خلال روسيا ... ولكنها كانت وطنية بالدرجة الاولي فأحتفظت بحب بلدها وولائها في قلبها و أضطرت ان تفتعل عدم اكتراثها لهذه الامور لفتره طويله .. حيث قضت ماري معظم طفولتها في هذا الضغط النفسي فقد كانت دائما مضطرة لإضهار ولائها للحكومة الروسية وزعيمها "القيصر إليكسندر الثاني" حتي أنها إنهارت كليا بعدما فقدت والدتها و أختها بوفاتهمها إثر أمراض لحقت بهن .. فمرت بفترة "إكتئاب دموي" كما أطلقت عليها هي .. ثم مرت من هذه الازمه لترجع إلي عالمها العلمي.
عانت كثيرا في رحلتها لاكتساب العلم.. فمن الناحية المادية كانت من أسره شبه فقيره و عملت كمربية أطفال لفتره حتي تتمكن من توفير المال اللازم لإستكمال تعليمها العالي لها و لأختها "برونيا". و قد كان أبيها خير معين و مربي و مشجع لإستكمالهم التعليم برغم كل المعوقات والصعوبات التي واجهته كرجل بولندي من الحكومة الروسية المحتلة آن ذاك.
و كغيرها من الفتيات .. أحبت ماري شخص ما يدعي "كازيمير زورافسكي" ولكنه كان غنيا ولم توافق عائلته علي الارتباط بها لأنها من عائلة فقيره و تعرضت ماري مره أخري للإهانة و التعب النفسيه و ما لبثت أن ألقت بكل هذا وراء ظهرها و أنطلقت إلي "باريس" أرض العلم في هذا الوقت. و سكنت في حي فقير في غرفه أعلي مبني بدون مدفأه وعانت في هذه الغرفه لمدة سنتين ونصف من أجل الدراسة في "السوربون" و في هذا الوقت سجلت إسمها بـ "ماري" بدلا من "مانيا" تأثرا منها بالأحساس بالحرية و الاستقلال الذي شعرت به وقتها كما قالت.
وكانت ماري دائما من أوائل الطلاب في جميع المراحل العلمية و حتي في هذه المرحله الجامعية الشاقة و الغير ميسره المعيشة ولكنها كافحت و ذاكرت و ركزت جودها علي العلم .. ولم تعبأ بأي شئ ينقصها في حياتها المعيشية.
و بمرور الوقت تعرفت علي زوجها "بيير كوري" فكان هو أيضا ملوعا بالعلم و الفيزياء و كان قبل معرفته بماري ضد النساء و يبعد عن التعامل معهن ولكن بعد ظهور ماري أثره عشقها وحبها و طلب منها الزواج مرارا و تكرارا بكل إلحاح حتي وافقت... , أصبحوا الثنائي العظيم الذي قدم للبشرية أعظم الاكتشفاات في مجال "الطاقة والمواد الاشعاع".
بعد زواجهم أصبحوا كعاشقان و تسبب أهتماماتهم وولعهم المشترك بالعلم و الفيزياء في قربهم و حبهم العميق .. فكانوا يعاونون بعضهم البعض بشده و خلال مراحل حياتهم جميعا كانوا خير زوج وزوجه علي المستوي الشخصي والاجتماعي. وأتخذت ماري منه لقب "كوري". حتي ان في يوم من الايام وجد ماري منهكه جدا في عملها و فجأه اسقطت من يدها نتاج عمل شهور "استخلاص الـراديوم النقي" .. فما كان عليه إلا ان هون عليها ولم يعنفها طلب منها ان تستريح بمنتهي اللطف. و أيضا بيير قد رفض استلام جائزة نوبل إذا لم يتم إرفاق إسم "ماري" معه فيها .. وكان في هذا الوقت ليس للنساء الحق في هذه الأمور.
أنجبت ماري طفلتين علي مراحل متباعده "إيرين " و "إيف" ... ولم تستطع ان تعطي لهم الاهتمام الكبير الكافي كأي أم متفرغه لأطفالها .. ولكن كان جدهم كوري يهتم هو لشئون بناتها أكثر و يأخذهم لرحلات و كان أقرب إلي "إيرين" .
وعلي الرغم من بعد الأم عن بناتها إلا انها اهتمت وبشده بتعليمهم علي أحسن و أكمل وجه فكانت تأتي بالعلماء في وقتها لـيدرسوا لمجموعة من ابناء العلماء منهم بناتها... وكانت ماري في هذا الوقت بدأت باكتشاف "مادة الراديوم" .. و التي بسببها حازت علي جائزة نوبل في الفيزياء .. و أرتبط إسم عائلة كوري بهذا العنصر قوي الاشعاع الجديد "الراديوم".
أما ابنه ماري الثانية فكانت مولعه بالموسيقي و الموضه وكانت ماري معترضه علي اهتمامتها هذه ولكنها وفرت لها مدرسين موسيقي وقامت بشراء بيانو كبير لها لتتعلم عليه.
كان اكتشاف ماري و بيير للراديوم انجاز عظيم... وليس لأنه عنصر مشع جدا و جديد.. ولكن لأن طريقة استخلاص هذا العنصر والحصول عليه غايه في التعقيد والدقه وليس هذا فقط بل كان خطير جدا والتعامل المباشر معه يؤدي إلي الموت ولكن حب ماري وبيير لعملهم و لعنصرهم الجديد "طفلهم" كما كانوا يسمونه .. جعلهم لا يأبهون لخطورته عليهم.
بعد فتره من فوزهم بجائزة نوبل .. مات بيير بسبب حادث سير في جو عاصف وممطر .. فكان قد أثرت المواد المشعه علي عظامه فأصبح لا يستطيع المشي إلا بصعوبه و في يوم ممطر في أحد ميادين باريس المقتظه بالماره قامت عربه محمله ثقيله تجرها الاحصنه بدهس دماغه بعد ان تعرقل بحصانها بالخطأ و مات علي الفور في سن ال٤٩ عام وكانت ماري صاحبة الـ٣٩ عام. و دخلت ماري كوري في مرحله اكتئاب كبيرة جدا جدا لفقدها شريك حياتها و شريكها العلمي و مساعدها النفسي و معاونها علي كل ابتلاءات الحياة و لكنها وبعد فتره استعادت نشاطها العلمي مره اخري لأستكمال ما بدأته هي و زوجها.
أخذت ماري الجائزة الثانية في الكيمياء أيضا في مادة الراديوم بعد اكتشاف و إثبات العنصر كماده كيميائية. و كان هذا انجاز عظيما لها أيضا.
أحبت ماري للمره الثانية و هذه المره يمكننا ان نحكم عليها بأنها خانت حبها لزوجها بيير .. ولكن الحقيقة لم تكن كذلك! .. فهذه المرأه الصغيره في العمر و عقلها المتعلق بالعلم ما كان لها ان ترتكب حماقات الصغار .. ولكنها و لاحتياجها الشديد للزوج لم ينقص من حبها لـ بيير شئ! .. فكانت دائما الكتابه عنه و الفخر به بل و تمسكت بلقبها منه .. ولكن هذا العالم الذي أحبه "بول لانجفين" كان متزوج و عندما قامت زوجته بأكتشاف أمرهما نشرت رسائل ماري وبول في الصحف .. فعنفت المجتمع تجاه ماري حتي طلب الكثير من العلماء بطردها خارج باريس .. ولكن أشياء كثيره حالت دون حدوث ذلك.
شاركت ماري في الحرب العالمية الاولي هي و إبنتها "إيرين" من خلال علاجهم ومساعدتهم لجرحي الحرب... وقاموا بالعديد من التشخصيات وتحديد أماكن موجود الكسور و الرصاص في جسم الجرحي بإستخدام الاشعه السينية.. كانت أعمالهم بطولية في هذه الحرب... حتي أن تعرضهم للأشعه السينية في هذه الفتره كان سبب من اسباب موتهم. مما أعاد لهم شهرتهم و أعاد حب الناس لهم وتقديرهم لدورها مره اخري.
كانت ابنتها "إيرين" مساعدها الثاني في المعمل بعد وفاة بيير... فكانوا يقومون بالابحاث و الاختبارات معا و قامت ماري بتعليم ابنتها كيفية القياس و استخلاص الراديوم وغيرها من المهارت .. و بعد فتره تزوجت "إيرين" من عالم أخر يدعي "فردريك جوليو" .. و كانوا الثنائي الثاني مثل "ايرين و بير" ... و فازوا بجائزة نوبل أيضا في الفيزياء بعد أكتشافهم لطريقة صناعة مواد مشعه بعد محاولات عديدة في هذا المجال و كان هذا بعد وفاة ماري كوري بعام. و في هذه الفتره تم اكتشاف ”الانشطار النووري“ و عمل ”القنابل النووية ” التي كانت ضد رؤية ورغبة آل كوري حيث كانوا يؤمنون بشده أن ”الطاقة النووية لها غرض واحد فقط هو تحسين الظروف الاقتصادية لحياتنا اليومية“. و عندما سقطت القنبلة علي هيروشيما و نجازاكي قالت إيرين .. ”إنني ممتنه ان أمي لم تعش لتري هذا اليوم“.
توفيت ماري كوري عن عمر ٦٧ عام و كان المرض كان قد بلغ منها ذروته في ٣ يوليو ١٩٣٤ .. بعد أن تركت إرث عظيم للعالم و لإبنتيها و لأحفادها أيضا اللذين شغلوا مناصب علمية عظيمه و أصبحت بذلك " آل كوري" هم أشعر العائلات نبوغا في المجال العالمي في القرن الماضي و أكثرهم تأثيرا في العالم...
وجدير بالذكر ان ماري كانت دائما باحثه عن السلام و كارهه بشده للحروب و القتل والعنف .. و دائما تقول ألم يكفي كل هذا العنف والدماء لتثبت للبشر ان العنف أسوء طريق للتعايش و أن يسلكوا طريق العلم بدلا منه.
و أخر ما قالته "أريد ان أترك في سلام".