بقلم: علي طه النوباني
وَقَفَ الحزبيُّ العَجُوز مُتَمَثِّلاً آلاف الاجتماعات المَليئَة بالمُماحَكاتِ والجَدلِ العَقيم الَّتي شاركَ فِيها شَخصيّاً عبرَ عُمره المَديد مُعلِناً أنَّ أَيَّ شِعر أو قِصة أو كِتابة إِبداعِية لا تَلتَزِمُ بالقَضِية كَما يَراها هُو، وَكَما تراها كَوادر حِزبه المُتحَجِّرة لا تَعنية، بَل إِنَّها لا تُعادِلُ قِيمَةَ الوَرَقِ الَّذِي كُتِبَتْ عَلَيه، وهو بذلِك يَفتَرِضُ لِنَفسِة مَكاناً مُتقدِّما في بِيئَةٍ أقحِمَ عَليها ابتِداءً كَما كوخٍ خشبيٍّ مُهتَرئٍ في وَسَطِ ملعَبِ كُرَة قَدم.
الرَّفيقُ غَيرُ مَعنِيٍّ بِالحُبِّ والجَمال، ولا بالبيئة والأرض، ولا بالفَضاء الفَسِيحِ بِكلِّ ما فِيه من غُموضٍ وَجُنون، وَلا حَتى بجَدَلِيات الاستِقرارِ والاضطراب، والحرب والسَّلام، والعلم والجهل، والحياة والموت، وكل ما يَعنِيه هُو تِلك المُماحَكاتُ الَّتِي يَستَذكِرها عَلى طاوِلة الرِّفاقِ الَّتِي تَعلوها لَمْبَةٌ خافِتَةٌ كَئيبةٌ من فئة 100 شمعة حَيثُ تَتَجَمَّدُ العِباراتُ في قَوالِبَ تُفَرِّخُ المَلَلَ، وَتُشْعِلُ الرَّغبةَ بالثَّوْرَةِ والرَّفْض لَدى كُلِّ صاحِبِ قَلبٍ حُرٍّ وَعَقلٍ مُستَنِير.
لِسانُ حالِه وَهوَ يَستَعرِضُ رَأيَهُ يَقول إِنَّهُ في اللَّحظَةِ الأَخِيرة لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ اسْتِرجاع سَبتة وَمَليلة، وَلَولا ذلِك لاسترجَعَ الأَندلس كامِلَة! فَمَنْ أنتُم أيُّها النَّكِرات؟
خِطابُك كَخِطابِ بَطَلٍ تاريخِيٍّ عَظِيم، فَقْلْ لي -بِحَقِّ الجَحِيم- ما هُو السرّ؟ كَيفَ بَلَغتَ هذا العُمرَ وَلَم تَستَشْهِد؟ كَيفَ تَشرَّفَ بُسطاءُ مِن أَمثالِنا بِلقائِك؟
أَلمْ تَرَ إِلى الأَنبِياءِ والقِدّيسين والعُظَماء وَهُمْ يَستَشهِدونَ بِكُلِّ تَواضُع؟
أَلمْ تَرَ إِلى الحَلاجِ وَهوَ واقِفٌ عَلى الصَّلِيبِ يَفُوحُ عِشقاً وَكَشفاً وامتِزاجاً بِقضايا الكَونِ كُلِّها دُون كِبرٍ تافِهٍ أو صَلَفٍ قَمئٍ أَو عُيونٍ تَفيضُ مِنها الكَراهِيَةُ والتَّعالي؟
أَلمْ تَرَ إِلى فُؤاد حجازي ومحمَّد جَمجُوم وَعَطا الزِّير وَهُم يُقَدِّمُون أَرواحَهم مُفْعَمينَ بالحُبّ وَالتَّواضُع والفَهمِ العَمِيق لِجَدَليّات التَّطوُّر الطَّبيعِيَّ للحَياةِ والشُّعوب دُونَ فَذلَكَةٍ قَمِيئَة مكشوفَةٍ وَعَجْرَفَةٍ مُقْرِفة.
ولنَفترضْ أنَّ مُعْجِزَةً حَصلت، فَنَجَوتَ أَيّها العَظيمُ مِنْ غُبارِ المَعارِكِ وَمَخاطِرِ الاغْتيالِ:
كَيفَ تَحَمَّلتَ أَنْ تَعِيشَ كُلَّ هذا العُمرِ في هذا القالب القَميءِ المَليءِ بالنَّمْلِ الأَسْوَدِ وَمُماحَكاتِ الرِّفاقِ ذَوي العُيونِ الضَيِّقَة الَّذينَ سَيَخْتَلِفونَ دائِما مَعَك حَتّى في اختيارِ لَونِ قَمِيصِك.
يا لَكَ مِنْ مُعجِزة!
اخرج من فضائِنا، وَخُذ قُيودَكَ مَعك، وابْحث عن نِعاج تَمتَطيها بِمَحضِ إِرادَتِها، فَأَمثالُكَ جَعَلوا انتهازيَّةَ اليَمينِ في عُيونِ النّاس أَجمَلَ مِنْ فذلكة اليَسار وَعَجرَفَتهِ الجّالسِةِ فَوقَ خَوازيقِ الفَشَلِ والضَّياعِ، وَأَمثالُكَ جَعَلُوا أَجيالاً بِأَسرِها لا تَعْرف عَن قضايانا سِوى أَنَّ مُتَحَجِّراتٍ مِنْ عَصرِ الدّيناصوراتِ تُشبعُ الجَوَّ بِالقَوالِبِ الجاهِزَةِ والمُسَلَّماتِ العَبِيطَةِ والأفكار المُحَنَّطَةِ الَّتِي تُثير الرَّغْبَةَ بالتَّقَيُّؤِ، وَتَمْلأُ الجَوَّ بِالغَثَيانِ والرَّتابَةِ.
لَوْ كُنتَ مُناضِلاً حَقّا لَذَهبتَ إِلى الشّارع حَيثَ يَتَعلَّمُ الأَولادُ وَالبَناتُ مِنَ "التيك توك" و "الفيسبوك" و "اليوتيوب" بَدَلاً مِنَ المَجيءِ هُنا بَينَ الكُتّاب لِتَبدوَ مِثلَ كاريكاتير مُثيرٍ للضَّحِكِ حيناً والاشْمِئزازِ حيناً آخر.
هكذا احتَشَدَ عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنْ مُحَرِّري صَفحَةِ التَّعلِيقِ السِّياسِيِّ اليَومِي السَّطحِيّ، والكَلِمَةِ الضّائِعة وأَلعابِ التَّسلِيَة واكتِشافِ الفُروقِ بَينَ الصُّورِ لِيُقَرِّروا لِلشُّعراءِ والرِّوائيين والنقاد والمُفَكِّرينَ كَيفَ يُفكِّرونَ ويكتُبون، وَكيفَ يَنظُرونَ إِلى الحَياةِ والأَشياء!
هَبْ أَنَّكَ حَصَلتَ على عُضوية نقابةِ المُهندسينَ دونَ أن تكون مهندسا أو نقابة الأطباء دون أن تكون طبيبا، ألا يَستدعي ذلِك مِنكَ أَن تَدعَ أصحابَ الشأنِ – ولستَ منهُم حُكماً - يُحَقِّقونَ أهدافَهم؟ ألا يَستدعي مِنكَ ذلكَ أن تَخجلَ عِندما تُعرقِلُ مُؤسَّسَتَهُم بِخِطابِكَ الخَشَبِيِّ وَفَجاجَتِكَ الظاهِرَةِ؟ ألا يستدعي ذلك مِنكَ أنْ تَبحثَ عن نَفسكَ وَتعرفَ بِتَواضُعٍ دَوركَ الحَقيقيَّ في مِثل هذه المُؤسَّسَة؟
وَأَنتَ يا صَديقي الفَيلَسوف، يَبدو أنَّ العَطّار قد مات، وَأَنَّ الدَّهر قَد شَبِعَ سُكرا عَلى مَصائِبنا، وَيبدو أَننا نَحتاجُ إلى تَأَمُّلٍ طَويلٍ لِنَستَخلِصَ طَريقاً في هذه الفَوضى العارِمَة بَينَ ذَوي العُيونِ الضيِّقة والقَوالب الجاهزة والأَحكامِ المُسبقة والمُتَقَلِّبينَ كالحرباء دون سبب معروف حتّى بِتنا لا نَعرِفُ لَهم طَعماً أَو لَوناً أو رائِحة.