رباط الخير /   رمضان  1435 /موافق17/07/2014


إن المتأمل في تاريخ المرأة لا يمكنه إلا أن يقف على الحيف و الظلم التي اكتوت به هذه المخلوقة /هذا النصف/هذا الشق الإنساني عبر التاريخ و في كل الحضارات ،مع فروقات على مستوى التنظير. لقد كانت الأنثى لا ترقى إلى رتبة إنسان ؛ فأقصيت و همشت و ظلمت . استكانت و رضخت لكل ما لحقها من طرف شقيقها وشقها، سواء تعلق الأمر بحضارات مؤطرة دينيا أو حضارات وثنية أو تلك التي ادعت إبعاد الدين عن الحياة و اعتباره مسألة شخصية/فردية لا يرقى لتنظيم حياة الناس الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية. وحتى لا نخوض في الوقائع التاريخية  الكثيرة التي تؤكد هذا الطرح، نكتفي ببعض الإشارات المعاصرة و التي لا شك أنها نتاج الأوضاع التي عاشتها الأنثى في السابق. ففي أوروبا و بالضبط بأنجلترا وغير بعيد عنا زمنيا (1918) سمح للرجل /للذكر أن يصوت في سن 18 سنة بينما الانثى لم يسمح لها بالتصويت إلا بعد بلوغ 30 سنة. في فرنسا ،بلد الحقوق و المساواة لم يسمح للمرأة بالتصويت- و بالتالي اعتبارها كائنا مفكرا ذو رأي- إلا في سنة 1944 قبيل استقلال المغرب من الاحتلال الفرنسي و اعتبار المغاربة راشدين قادرين على تدبير شؤونهم بأنفسهم دون الحاجة للحماية من أحد.

قد يعترض أحد على هذه الصورة القاتمة التي عاشتها المرأة، بدعوى أن التاريخ شهد نماذج من النساء فقن الرجال و أعطين أمثلة مشرقة عما كانته المرأة ، و هي مسألة لا جدال حولها ، إلا أنها استثناءات معزولة تؤكد القاعدة فقط .و الاعتراض الثاني الذي قد يرد هنا أيضا هو عدم الانصاف بين الحضارات ،حيث لم ننصف الحضارة الاسلامية التي رفعت من قدر المرأة و أنصفتها ، وهي مسألة غالبا ما نحتكم فيها للنص لا للواقع، فتبدو لنا المرأة أنها عاشت و نعمت فعلا بما ورد في النصوص من تقدير لها و أنها شقيقة الرجل. والحقيقة أنه ،باستثناء بعض النماذج المعدودة ،لم تنعم المرأة عموما بما أعطي لها من حقوق ؛فكانت كذلك الذي يمتلك حكما بين يديه و لكنه عاجز عن استرجاع حقوقه نظرا لعجزه وعجز/تقصير الجهة المعنية بتنفيذ الحكم. فالمسالة ليست في الأحكام و إنما في تنزيل هذه الأخيرة على أرض الواقع.

كل هذه الظروف التي كابدتها الأنثى ،جعلتها توظف عبر التاريخ قوتها اللينة ؛ حيث أصبحنا في بداية القرن21م نشهد انتفاضة أنثوية عالمية  تكاد تغطي جميع الميادين. و الحقيقة أن إرهاصات هذه الهبة بدأت في أواخر القرن 20م عندما لوحظ أن الإناث بدأن يتصدرن لوائح الناجحين بل و المتفوقين. و بدأت الشعب العلمية تعرف تزايدا في عدد الإناث بعدما كن استثناءات داخل القسم العلمي. موازاة مع ذلك لوحظت الظاهرة عالميا . هنا قد تتعدد التفسيرات و التأويلات ،ذلك أن السياق حينها كان يؤول للانفتاح و الحقوق والديمقراطية والمشاركة و تشجيع إنشاء الجمعيات ومشاركة المجتمع المدني و ما إلى ذلك مما عرفه العالم الثالثي على وجه الخصوص . و ما يبدو أقرب للصواب هو أن التراكمات التي حصلت سلفا هي التي أنتجت ذلك السياق السالف الذكر الذي ساهم في خلق مناخ مناسب لتعبر الأنثى عن مكنونها الذي طالما كبتته بداخلها.  استغلت المرأة هذا الانفتاح و هذا "الكرم" الرجولي فأنشأت جمعيات نسائية تهتم بقضايا المرأة ؛ بل أصبحت تسمع أشياء من قبيل "للنساء فقط" . واصلت المرأة الانعتاق و التحرر حتى بدا للبعض أنها تجاوزت الحدود، و قد يحتاج الرجل مستقبلا استرجاع بعض حقوقه من شقه.

في هذا السياق ستنشط حركات" نسوية"أو"أنثوية"* و التي تختلف عن الحركة النسائية ذات المطالب الحقوقية المساواتية رفعا للظلم الذي لحق النساء.  هذه الحركات التي يمكن وصفها بالمتطرفة ترى في الطبيعة ظالما لها و ترى في الرجل عدوا لها ؛فالطبيعة جعلتها مسؤولة عن الحمل و أوجاعه بينما أعفت الرجل من ذلك . لذا" فالنسوية" تراهن على العلم و منجزاته لتغيير فيزيولوجية الرجل وإرغامه على أن يحمل و يلد كما تفعل الأنثى اليوم. أما مسألة اللغة فللحركة فيها قول غريب ؛فهي ترى أن الرجل ذكر اللغة فالتاريخ  مثلا بالإنجليزية     "تاريخه"       his tory      أي تاريخ الرجل. و لله تعالى نستعمل ضمير المذكر "هو"  "he" و لم لا "she " و الأمثلة كثيرة على تذكير اللغة  و لذا تريد "النسوية" أن تستعيد تأنيث اللغة أو على الأقل نصفها ؛فتقترح كضمير لله جل جلاله "she-he "  يتصف  بالأنوثة كما يتصف بالذكورة .ثم تحاول كتابة "تاريخها "بعد أن كان" تاريخه"  و هكذا تعيد هذه الحركة للعالم أنوثته بعد أن هيمنت عليه الذكورة . و الغريب في الأمر أن بعض المصطلحات في لغتنا العربية تعطي هذه الحركة الشاذة دليلا إضافيا لمواصلة هذا الطريق ؛ فالرجل عندنا إذا أصاب فهو "مصيب" ، أما المرأة و إن أصابت فهي " مصيبة "('لا قدر الله تعالى) والرجل إذا مثل الأمة في البرلمان فهو "نائب" لكن المرأة و إن مثلت الأمة فهي "نائبة" (أجارنا الله تعالى و إياكم من النوائب و المصائب).

         إن الحرية المقرونة بالمسؤولية لهي قيمة إنسانية لا يمكن لذي لب إلا أن يشجعها و يشجع المكافح من أجلها ذكرا كان أم أنثى. أما الحركات المتطرفة فستبقى في الطرف أي الهامش و لا يمكنها أن تحقق شيئا يذكر.   يتبع....


  • للمزيد حول الموضوع،  انظر د.عبدالوهاب المسيري  رحمه الله تعالى . مجلة الفكر و الفن المعاصر  العددان/878 -879 اكتوبر1997.