ما بين دفتي الجزيرة العربية أنزل الله تعالى قوله في قومٍ وصفهم  في منزل التحكيم: ( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا )، أولئك أجدادنا وآبائنا الأولين من عاشوا الأمرّين حتى استطاعوا بسط نفوذ الإسلام خارج الجزيرة العربية كما يُقال في العامية من الجال للجال، أزالوا الفرس وحكمهم ثم أزالوا الروم وحكمهم ثم تعمقوا لما هو أبعد من ذلك عبر السنين حتى وصلوا لحدود الصين شرقاً والالتفاف من جنوب المتوسط ليحكموا سيطرتهم على الجنوب الغربي من أوروبا.

من يعتقد تخيلاً أو جزماً أن هذا النصر كان بالسهولة بمكان فهو يسبح في محيط من الوهم، التوسع كلف المسلمين الكثير من الرجال والمال والعتاد العسكري وكل هذا لم يكن بشيء ليتحقق لولا اليقين الراسخ في قلوب وعقول المسلمين بأن النصر من عند الله مهما كانت الأسباب سواء كانت نقص أو وفرة في الرجال والمال والعتاد العسكري.

نعيش اليوم أحداث مفصلية كُبرى في تاريخ المسلمين الفرق بينها وبين ما عايشه أجدادنا وآباءنا أنهم كانوا في حالة توسع لنشر الإسلام وبسط نفوذ المسلمين أما في يومنا هذا فنحن في وضعية المدافع عما تبقى من نفوذ للمسلمين.

المشهد الدولي حالياً لكل حصيف يراه عبارة عن صراع نفوذ خفي ثنائي بين قوتين لم تتصادم بعد على العلن فعلياً "أمريكا ــ الصين" أما ما نراه على العلن من صراع ثنائي "أمريكا ــ روسيا" هو مجرد حفلة استعراضية من أمريكا تستنزف فيه ما تبقى من روسيا، الصراع الروسي مع أمريكا انتهى مع انهيار الاتحاد السوفيتي.

رؤية أمريكا للروس حالياً كعدو تأتي في المرتبة الثانية مع تغيير أحياناً للمركز الثالث حسب ما يستجد على الساحة الدولية من أحداث في حينها وطبعاً المنافس للروس لديهم هو المسلمين. نظرة أمريكا للمسلمين وإن كانت بأنهم لا حول ولا قوة لهم على الصعيد العسكري إلا أن ما يجعلهم عدو لها هو لغة القوة المتجذرة في صُلب العقيدة الإسلامية "الجهاد" لأنه مع وجوده لا يُمكن لأي قوة غير مسلمة أن تسيطر على المسلمين وكم رأينا من محاولات سابقة وحالية لتشويهه بطرق شتى حتى وصلنا لهذا الخديج المشوه المسمى داعش.

وإن كان لإيران وأتباعها في العراق وسوريا دور في هذا الوليد المشوه فلأمريكا دور لا يقل عنهم فهل يُعقل أن نرى تنظيماً يسرح ويمرح حتى وصل لإنشاء دولة جهادية وأمريكا تتفرج عليه من المدرجات وهي التي تمقت كل ماله صلة بالإرهاب حسب مزاعمها؟

ما أسفه عقلاً لا يرى النفَس الأمريكي الخفي في ولادته والحفاظ على حياته حتى الآن.

لنقف الآن ونشاهد كل ما سبق بتأمل لنرتب الصراع والأهداف المرجوة منه بإيجاز..

الصراع في أصله له هدف واحد، تفرغ أمريكا للقوة الصينية وهذا لن يحدث حتى يتم القضاء على القوى التي يمكن أن تكون مؤثرة في المشهد الدولي عند بدء الصراع بين أمريكا والصين، القوى المؤثرة التي تنظر لها أمريكا ليست قوى عسكرية أو اقتصادية أو بشرية قدر أنها نظرة استراتيجية واسعة تتمثل بشيء اسمه الأمم تأخذ في جلبابها كل ما سبق نظرتهم الشمولية ترى الروس أمة كما ترى المسلمين أمة كما هي الصين أمة بحد ذاتها وأمريكا بطبيعة الحال تُعتبر قائدة أمة الغرب المتعارف عليه بيننا بأوروبا وشمال القارة الأمريكية.

القضاء فعلياً على أي شيء من الصعب حدوثه لكن الممكن هو ما بشرتنا به قبل سنوات كونداليزا رايس بالشرق الأوسط الجديد أو ما يسمى بنظرية الفوضى الخلاقة التي ترى أن وصول المجتمع إلى أقصى درجات الفوضى متمثلة بالعنف والرعب والدم يخلق إمكانية إعادة بناءه لتنتج عنه هوية جديدة، وقد صدقت وهي كاذبة ليس في ما نراه اليوم من مآسي حتى يقتنع المسلمين بأن لا فرصة لهم إلا بالديمقراطية ولكن الهدف الحقيقي في استنزاف مكامن القوة وإضعاف كُل ضعيف وتمزيق الممزق.

الأمريكي كما هو منذ قيادته للعالم يبشرك بأحلام وردية حتى تراها تكاد تتحقق ثم تكتشف أنك تعيش في زيف أحلام وردية.

أبعد هذا هل يُمكن لمسلم على وجه الأرض أن يتحرز ويخشى من تدهور لحال تمر فيه الأمة الإسلامية أكثر مما هو عليه الآن من مآسي وضعف وتشرذم؟

إن انتصرنا للرأي القائل بأن علينا الانكفاء على ما نحن فيه فهل نستطيع التيقن بأن الغد لا يكون شعاره بيننا "كما أُكل الثور الأبيض؟"

من يستطيع أن يجلب لنا العهود والمواثيق الدولية الصادقة على ذلك فسيخلده التاريخ كما خلّد صلاح الدين الأيوبي مع فرق في الطريقة التي اتبعها.

لكن هيهات لمن يعتقد بذلك لأن لغة البقاء بين الأمم لا تتحدث بذلك منذ فجر التاريخ، إن لم تملك القدرة على التحدث بلغة الأقوياء فأنت حتماً ستُلفظ من الوجود وفي أفضل أحوالك ستكون على الهامش إن رق لك قلب أحد الأقوياء وما رِقته إن حدثت إلا لمصلحة تخدم إحدى توجهاته السياسية لمجابهة منافس له.

لا توجد لغة اسمها لغة السلام يمكن لوحدها أن تجعلك تنعم بالأمن والأمان ما دمت لا تتحدث بلغة القوة، هل يُعقل أن تمد الجزرة دون أن تمد معها العصا؟

وإن أردنا الأخذ بالرأي الآخر للنهوض مما نحن فيه والتصدي لمشاريع التقسيم فعلينا العمل تحت ظِل الآية الكريمة: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل... )

لم يأمرنا الله عز وجل إلا بقدر استطاعتنا وليس الانتظار حتى نضاهي العدو بقوته لأن الغاية في قوله تعالى: ( وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ) فهنا مربط الفرس الذي يُعيدنا لمبتدأ ما ذكرناه في قوله تعالى: ( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ).

مشاريع التقسيم في قلب منطقة المسلمين كما أوردنا لها أب يرعاها متمثلة في أمريكا لكن أيضاً لها مردة وشياطين انساقوا خلفها بعلم وبدون علم لماهية ما هو مخطط له ابتداءً بروسيا ومروراً بإيران وانتهاءً بالضبعة اسرائيل التي أخذت ركناً قصياً بإرادتها وهي تتحين الفرصة المناسبة لها ولن تفعلها حتى ترى المسلمين أصيبوا بمقتل.

في خضم هذا الكم الهائل من السياسات والأفعال المتناقضة خرجت سياسة السعودية عن مسار كان يُرى أنها لن تخرج منه لتتصدى بجرأة غير معهودة لكل هذا، جرأة ليست ذات صفة تتصف بالتهور ولكن جرأة مقدامة تتصف بالحنكة والدهاء السياسي تضرب أوتار مخططات التقسيم بذات الأسباب التي تُدار بها لذلك نرى دهشة وصدمة لم يفق منها من خطط للتقسيم قبل روسيا وإيران حتى رأينا في مقطع لجلسة في الكونجرس الأمريكي قبل فترة قليلة في رد لسؤال منهم للمسئولين العسكريين عن قدرة الجيش السعودي فكان الرد بأن الجيش السعوي لا يملك القدرة والتدريب الكافي لخوض حرب برية في سوريا!!

مهما حمل هذا التعليق من مقاصد يقصدونها فالشيء الايجابي فيه هو امتلاك الجيش السعودي عنصر المفاجأة حتى الان في قدرته على تحقيق ما هو مستبعد من المسئولين الأمريكيين فكيف بمن هم أقل قدرة على تقييم قوة الجيش السعودي.

ألا يعلم صانع القرار الأمريكي جوهر التفوق عند الجندي السعودي كما ألا يعلمه خامنئي وهو القائل في ما مضى: حدود ايران تنتهي عند مكة.

جوهر التفوق الذي جعل أجدادنا وآباءنا في صدر الإسلام الخروج خارج حدود الجزيرة العربية للمرة الأولى في تاريخهم وما عادوا إلا وهم قد أزالوا إمبراطوريتين كانتا تحكم العالم فيما مضى.

هل يمكن أن يتكرر المشهد على الأقل في دفع البلاء عن المسلمين خاصة ما يحدث حالياً في الشام؟

إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في الحديث:... إن الله تكفل لي بالشام وأهله.

هل يمكن لنا إلا أن نقول بلى ورب البيت مؤمنين متيقنين من ذلك مصداقاً لنبينا صلوات الله وسلامه عليه.

 في الشام رجال ونعم الرجال ينتظرون عوننا بعد تكالب الأعداء عليهم لذلك الدفع للتقدم بهذه السياسة يجب أن لا يتوقف مهما ثبط المثبطون ومهما نظّر المنظّرون فأمريكا وإن كانت المخطط ليست بحالها السابق وكفانا بحقيقة ذلك قول الملك سلمان لأوباما "لسنا بحاجة لأحد"، هذه لغة القوة التي يفهمها الأقوياء وغير ذلك مجرد هراء.

لنكن على يقين بأن القيادة لدينا ما خطت خطوتها منذ عاصفة الحزم إلا وهي تملك من الأدوات ما يمكنها من الثبات على ما تريد حتى تتحقق الأهداف المرسومة لذلك وإن كان هناك من مولول على عدم صحة هذه السياسة الجديدة فالشواهد على ذلك على الأقل عسكرياً ما عُرض من صواريخ رياح الشرق للمرة الأولى في تمرين سيف عبدالله فهذه رسالة رمزية للعالم تعمل بها الدول كعُرف بينها ليس في ما عُرض ولكن ما يُعرض لا يُعرض إلا وأنت تملك ما هو أفضل منه.

نعم يعلم الأمريكي كما الايراني جوهر التفوق عند الجندي السعودي وطبعاً الدب الروسي ذاق مرارته يوماً ما لكنهم يتجاهلون ذلك لعل وعسى ولكن..

يكفي أن يقرأ الطيار وهو يقود طائرته الحربية والجندي الذي يقود دبابته والجندي الذي يحمل سلاحه ( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) حتى تمتلئ أرواحهم إيماناً لا يجعلهم يعودون إلا بالنصر أو الشهادة.

ليس من السهل خروج الجندي من جزيرة العرب لخوض الحروب خارجها ولكن حين يحدث ذلك لابد أن يُحدث فرقاً إن فعلها وخرج، هذه ليست عاطفة أو زيفاً نصنعه هذا ماخُط في كتب التاريخ وما على الباحث عن صدقية ذلك إلا تقليب صفحات التاريخ.


ختاماً خير الهدي في اتباع ما نحن فيه هدي النبي الأمي صلى الله عليه وسلم بقوله: بُعِثتُ بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له وجُعِل رزقي تحت ظل رُمحي وجُعِل الذُلُ والصَّغارُ على من خالف أمري ومن تشبه بقومٍ فهو منهم.


#عارف_الحيسوني