شُغل الدهقان ذات يوم ببناءٍ له عن الخروج إلى ضيعته القريبه من "جَيّ" فدعا إليه ابنه سلمان، وطلب منه أن يذهب إلى الضيعة فيشرف على شؤونها ، وفرح سلمان بطلب والده أشد الفرح ، فقد كان يتمناه ، فهو يريد أن يغادر بيت النار الذي سئمه ، ويبتعد عن أولئك الرجال الذين عافتهم نفسه ، وأسرع فامتطى جواد والده الذي أوصاه قائلاً : لاتتأخر علي يابني ، وعُد إلي سريعاً ، فلست أصبر على فراقك . ثم شيَّعه بنظرات الحب والحنان ، إلى أن غاب عن ناظريه.

سار سلمان والسرور يملأ قلبه ، فقد شعر وكأنما خرج من سجن طال فيه مكثه ، أو كأنما أبلّ من مرض قد لزمه ، وتجاوز أطراف القرية ، ثم سلك طريقاً في سفح جبل تكسوه الأشجار الجميلة ، كان قد سلكه بضع مرات بصحبة والده ، وأهوى سلمان بسوطه على جواده ، يريده أن يسرع ليصل إلى ضيعة والده ، فيستمتع بجناتها ومياها ، ويقضي فيها هذه الفرصه النادرة التي حصل عليها.

وبينما هو في سيره ، إذا به يمر بجانب بناء لايشبه في طرازه أبنية أهل جيّ ، فلفت ذلك نظره ، فاقترب منه فإذا به يسمع أصواتاً جميلة تنبعث منه ، وترانيم رائعه تنساب إلى القلب انسياباً ، فتوقف عن سيره ليعرف حقيقة مافي هذا البناء الذي لم يلفت نظره من قبل ، وربط جواده في ظل شجرة قريبة ، ثم دخل في ممر ضيق قد سقف ، ثم أفضى إلى قاعة واسعة ، مرتفعة السقف ، ذات نوافذ علوية وسفلية ، وإذا فيها عدد من الرجال المسنين ، يلبسون المُسُوح السوداء ، قد طالت لِحالهم ، وغطوا رؤوسهم بالقلانس ، وإذا بهم وكأن الروح قد خرجت منهم لكثرة اجتهادهم في عبادتهم ، وقد اتجهوا جميعاً إلى بلاد الشام بينما نصب كبيرهم ورئيسهم لهم وجهه.

دهش سلمان لهذا المنظر ، فجلس خلف أولئك الرجال يستمع لترانيمهم ، ولم يعبأوا هم به بل تابعوا تلاوتهم بأصواتهم العذبة ، وجعلوا يتناوبون القراءة ، حتى إذا أتموا نسكهم ، قام إليه واحد منهم ، فسأله عن حاله ، فأخبره سلمان ، فأمسك بيده وجاء به إلى رئيسهم وقال له : سيدي ، هذا الغلام هو ابن دهقان "جيّ" دخل علينا فأعجبه حالنا وهو يريد معرفة مانحن عليه.

جلس سلمان بين يدي كبير الرهبان ، فأخذته هيبته ، وتكلم الشيخ الجليل ، فزادت هيبته في قلب الغلام ، واتجه إلى سلمان قائلاً:

ياغلام ، إن لك رباً ، وإن لك معاداً ، وإن بين يديك جنة أو ناراً إليها تصير .

وإن هؤلاء الذين يعبدون النار أهل كفر وضـلالة ليسوا على دين !!

ودهش سلمان للذي سمعه، ونفذت كلمات الرهبان إلى قلبه ، وسأل كبير الرهبان ببراءة: وهل لنا رب سوى النار؟

فأجابه: ربنا هو خالق الأرض والسماء ، وخالق النار والماء ، وخالق الجبال والأشجار ، وخالق جميع البشر ، وهو على كل شي وكيل، أما هذه النار ، فنحن نشغلها ونحن نطفئها ، فكيف نعبدها؟..

وسكت سلمان ولم يستطيع أن يرد على الرهبان شيئاً ، بل لقد أقنعه كلامه..بيد أن ذهنه بقي مشغولاً بما سمع من الرهبان عن الجنة والنار ، فسأله قائلاً: هذه الجنة والنار من أخبركم عنهما؟..

فأجاب الرهبان الكبير:

أنبياء الله ورسله .

وقال سلمان: ومن أنبياء الله ورسله؟.

اجاب الشيخ: هم بشر من الناس ، اصطفاهم الله وأكرمهم ، وأنزل عليهم كلامه ، وأمرهم أن يدعوا الناس إلى دين الله ، ويبلغوهم كلامه.

ثم ذكر له من مضى من الأنبياء والرسل حتى خلص إلى عيسى ، فقال : ثم بعث الله عيسى رسولاً، وسخر له ماكان يفعل من إحياء الموتى ، وخلق الطير ، وإبراء الأكمه والأبرص ..

وكفر به قوم واتبعه قوم ، وانما كان عبد الله ورسوله ، ابتلى به خلقه ، وماترك الناس حتى بشرهم برسول عظيم يأتي من بعده ونحن في انتظاره.

وفتح الراهب النصراني الصالح قلب سلمان على الهداية ، فأشرقت فيه ونورت جوانبه ، وأيقن أن هذا الدين خير من دين قومه،وأعلى شأناً فأعلن أمام الرهبان جميعاً أنه قد ترك دينه القديم وأنه على دينهم ، وهو يشهد أن الله إلٓه واحد لاشريك له ، وأن كل ماعداه مخلوقات له، وعبيد خاضعون لجلاله ، وأنه يؤمن بالآخره ومافيها من جنة ونار! وفرح الرهبان أشد الفرح لدخول سلمان في دينهم ، وظهر منهم سرور بالغ ، فازداد اعتقاد سلمان بصدقهم وإخلاصهم،وأقبل عليه كبيرهم يقول له :

ولكن ياسلمان ، أُوصيك بألا تجهر بدينك في قومك ، فإن ذلك يؤذيك ويؤذينا .

قال سلمان: وكيف ياسيدي ونحن على الحق وهم على الباطل!

واجاب الراهب: إنهم يرون العكس ..إن الكفر أبداً عدو للايمان ، فخفف عنا وعنك ، ولاتحملنا من الأمر مالا نطيق ،فنحن إنما هاجرنا إلى بلادكم فراراً بديننا ، من قومنا الذين غيروا وبدلوا.

قال سلمان : من إين انتم ياسيدي ، وأين أصل هذا الدين؟

فأجابه الراهب: نحن من بلاد الشام ، وهي أصل ديننا ، ولكن..ولم يتم الراهب كلامه ، وسكت سلمان ولم يُرِد أن يحمله على كلامٍ لايريده...يُتبع




١-المسوح: الكساء من الشعر

٢-النسك: العباده

٣-الأكمه: الأعمى