على الحدود، أتلفتُ إلى الوراء مرةً أُخرى أخيرة.. فأرى آثار هروبي، أرى المكانَ الذي أعرف، والذي يعرفني، الذي رغم الظروفِ التي أوقعنا فيها- أُحِب، والذي رغم -رحلينا عنّه- يُحبنا، وأعلم في ذاتِ اللحظة أن لا مناص من الرحيل، وأفهم.. أنّ بعد بلوغي هذا الوقت وهذه المسافة، أضحى الرجوع عن القرار شيئًا مستحيلًا، وأنّ العودة كالضبابِ الكثيف الذي يُحيط بقاربنا الآن، والذي بعد وقت.. لن يعود موجودًا البتة، سيتلاشى
وحين تصل، إلى المكانِ الذي لا تعرفه ولا يعرفك، الذي يُخالطك بشأنه شعور غريب أقرب للمقت.. ترى أنَّه بطريقة ما يشبه أرضك، طرقات وشوراع ومباني وناس وحياة، ولكنَّ داخلك يأبى الاعتياد. إنَّهُ يُصور لك الأشياء بجعل هذا المكان غريبًا دائمًا عنّك.
إنّ الحنين والنّزوع الذي في داخلك يعطلانِ خططك للحياة الجديدة
ثُمّ تفهم أنَّك أنت الغريب عليهم، لا هم الغرباءُ عنّك، يرطن النَّاس بلغة لا تفهمها، تحتاجُ وقتًا طويلًا كي تفهم كلامهم، ولا يحتاجُ أحدٌ منهم فهم ما تقول.. إنّك الدخيل الغريبُ الذي يجوبُ الشوارع وحيدًا، الذي لا يجلس على كراسي الانتظار كي يجنب نفسه الجلوس بجانب أحد، يتحاشى النّظر إلى أيّ مخلوق، ويتحاشى الحديث، الذي يقف في المحطة بعيدًا عن الجماعات المتفرقة.
تترك المطر ينهال على مظلتك ولا تشاركها أحد إذا ما أحتاجها، في القطار ستكون من الذين يجلسون في المقعد الأخير مرخيًا رأسك على النّافذة وتراقب بعيناك المبللة الطرقات التي لا تشبه طرقاتكم والمطر الذي لا يشبه أمطاركم والسماء.. البعيدة كُل البعد عن سمائكم، والنَّاس.. غير الناس والحياة ليست كالحياة، إنها أشبه بحلم قادر على التلاشي في أي لحظة قد تفيقُ بها، وتخاف.. من السباتِ هُنا.. في هذا البرد الذي يلفُ المدينة، في هذه المدينة التي تبدو في حالة شتاء دائمة، ورأسك لا يزالُ على نافذة العربة عالق في هذه الحالة. تنتهد للمرة العاشرة على التوالي وتفكر -حين تسمع صافرة الوصول- أنّك قد لا تصل يومًا!