كان سلمان غلاماً طويل القامة،ممتلئ الجسم ،قوي العظلات،سليم الفطرة،كبير العقل،قوي الذاكره،تفوق على سائر أقرانه في قريته "جَيّ" بل على سائر أقرانه في مدينتة "أصفهان" التي كان أهلها يقولون عنها أنها نصف الدنيا.

ولقد عجب أهالي "جَيّ" من دِهقانهم "بوذخشان" فقد كان رجلاً واسع الغنى،يتحلى بسائر صفات الزعيم الكبير ،وكان يتمنى أن يُرزق الولد الذي يرثه ماله ومواهبه وزعامته؛إلا أنه رغم تكرار زواجه لم ينجب الولد!!

ثم إنه سَعَى إلى مدينة "رامَهُرْمُز" وهناك اتصلت حباله بحبال امرأه أرملة ثرية ، فأُجب بها وأُعجبت به ، وتزوجها وقدم بها وبطفلها الصغير " سلمان" إلى بلدته "جَيّ" ولقد أحب الدهقان هذا الطفل حباً عظيماً ، حتى كأنه هو الذي أنجبه ، فرعاه رعاية عظيمة ، ونشأ هو ولا يحسب الدهقان إلا أنه ابوه ، وصار يناديه كما ينادي الابن أباه ، ووجد"بوذخشان" به العَوَض عمّا فاته من الولد ، فسكنت نفسه ، وذهبت أحزانه واطمأن إلى أنه قد وجد من يرثه ويكون امتداداً له.

حرص الدهقان على هذا الولد الذي ساقته إليه المقادير حرصاً عظيماً ، فجعل يحوطه ويرعاه ويكرمه ، ولا يدعه يخرج من البيت إلا قليلاً ، وإن هو خرج أرسل وراءه من يكلؤه حتى يعود إليه ، وأحب أن يشغل له عقله الكبير ، وذهنه الوقّاد ، فلم يجد خيراً من أن يوجهه لدراسة طقوس "المجوسية" :دين الأعاجم.. وأقبل الغلام النبيه على المجوسية يقرأ تعاليمها بشغف عظيم ، حتى فقِهها ، واتجه بكل طاقته نحو " النار" التي ترمز للمعبود الأعظم للمجوس وهو " إلٓه النور" حتى صار القيِّم الأول على بيتها في بلدته " جَيّ" فكان لايدعها تخبو ساعة من ليلٍ ولا نهار ، وكان يلقي إليها بخشب الصندل والبخور ، ويسعد لتلك الروائح الزكية وهي تفوح منها ، ويُسر بمنظر لهبها الأحمر الجميل الذي كان يرى فيه رمز الضياء والصفاء !!.

سعد سلمان بادئ الأمر بوظيفته الرفيعة التي أصبح يشغلها وهو لايزال بعد غلاماً ، فقد كان يتمناها كل إنسان في بلدته ، واعتقد هو أنه يقوم بعمل يرضي الإلٓه عنه ، ويرتفع به قدره عنده ، وأذهبت هذه الوظيفة أيضاً كثيراً من أحزانه التي أصابته بسبب موت والدته المفاجئ ، وخففت كثيراً من وقع هذه الفاجعة على قلبه الغض.

وكانت تستولي عليه نشوة غامرة من السرور حينما يفد إليه أهل القرية صباح ومساء، فيقفون أمام النار صامتين لمدة يسيرة ثم ينصرفون ، وكذالك حينما كان يأتيه الحجيج من بلاد بعيدة ، ومعهم الهدايا من الخشب النفيس والبخور والأموال والتحف ، يقدمونها للنار المقدسة ويأتمنونه عليها . ولاتَسَلْ عن سعادته العظيمة حينما كان يتسلم بين الحين والحين هدايا الملك الكبير " شاهنشاه" راعي المجوسية الأكبر.

بيد أنه لم يمضِ على سلمان إلا سنوات قليلة حتى شعر أن نفسه قد عزفت عن هذا الدين الذي عليه قومه ومَلّ حياته الرتيبه ، وملّ هؤلاء الناس الذين يعيش معهم ، فقد كان لا يعرف من الدنيا سوى بيته ، وبيت النار القريب من بيته، وليس له صحب -وهو الشاب النابغ- سوى أولئك الشيوخ الذين كانوا يعتكفون بجانب النار المقدسة ، يقضون ماتبقى من اعمارهم ، وكان هؤلاء يلتزمون الصمت ويؤثرونه ، فلا مجال لحديث يجريه معهم ، ولامجال للمحاورة ونقاش في تلك الشكوك التي بدأت تثور في نفسه حول هذا الدين الذي هم عليه ، وحول اعتكافه هو وإياهم فيما يحسبونه طاعة وتقرباً من الإلٓه .

وهكذا تبدلت نظرة سلمان إلى دينه ، وتلاشى السرور الذي وجده بادئ الأمر ، وأصبح في حيرة من أمره ، لايدي ماذا يصنع!!.

أما أبوه الدهقان فقد تاه فخراً على أهل قريته ، وأعجبه انصراف ابنه لخدمة النار وشغفه بها ، وانصرافه هو لشؤون الزراعة وإدارك شؤون القرية ، واعتقد أنه قد حاز المجد من أطرافه ، فهو رئيس القرية وكبير أغنيائها ، وابنه قّيم النار وعالِم المجوسية!!...يُتبع🌿




١-لم يكن اسم هذا الطفل "سلمان"بل صار اسمه هكذا بعد زمان، ولقد آثرنا أن نطلق عليه هذا الاسم مبكراً،فهو الاسم الذي حفظ الله له به ذكره.

٢-"الدهقان" شيخ القرية، العالِم بشؤون الفِلاحه.

٣-"يكلؤه" يحفظه.

٤-"شاهنشاه"ملك الملوك،وكان هذا لقب ملوك فارس.