يا حسين: سمعنا واطعنا ووعينا فاتبعنا
حيدر حسين سويري
ملحمة ليست كسائر الملاحم التي ذكرها التاريخ، لقد سبقت التاريخ بل كشفت زيفه وزيف كثيرٍ من أربابه، مختلفة عن سائر الملاحم التي خلدها، واراد ابرازها وتصدرها لدى العقل الجمعي البشري، لكن هيهات ان تسمح هذه الملحمة بان يجعل التاريخ خلود غيرها كخلودها.
لقد بقيت الملاحم الأخرى خالدة بين طيات الكتب وقراطيس المؤرخين؛ حبيسة فكر الخاصة فقط من القراء والمفكرين، لكن ملحمة الطف (كربلاء الحسين) بقيت خالدة في قلوب الناس وأفعالهم، لذا فخلودها غير خلود باقي الملاحم، فالملاحم بعد مرور فترة زمنية تطوى صفحاتها وينتهي تأثيرها، الا ملحمة الحسين فهي بازديادٍ دائم في كل شيء (المناصرون، التابعون، الخدم، الجهاد، بذل المال، العالمية، العمومية، وغيرها كثير).
الملحمة التي استمرت ما يقارب 1400 سنة، وما زال توهجها ينتشر وينتشر، يضيء ما حوله فيبدد سحب الظلم والطغيان والاستكبار، يفضح أصحاب المناصب والمعالي وأتباع الشيطان بزي الملائكة، الذئاب البشرية والكلاب الادمية، وإذا استمر بهذا الشكل فسيغطي العالم بأسره ويحرره، فمن المؤكد أن لهذه الملحمة سِرٌّ تقف وراءه قوة غيبية كبيرة وكما يعبر اصحاب الاديان (الله جل وعلا).
لكن السؤال: هل فعلا ان انتشارها لان الله مؤيدها؟ إذن هنا يرد إشكال: لماذا هذه الملحمة دوناً عن الملاحم الأخرى؟ فملاحم التاريخ كبيره وكثيرة ومؤيده من قبل الله سبحانه، فبماذا امتازت عن الملاحم الأخرى؟
مميزات الملحمة الحسينية من وجهة نظر دينية:
لأن بطلها واضح المعالم فهو الحسين ين علي بن ابي طالب وابن الزهراء بنت رسول الله (ص)، إذن فهو سبط نبي وابن وصي وأمه سيدة نساء العالمين، وهو إمام بالنص القرآني والحديث الشريف.
لأن بطلها كان يعلم باستشهاده وأنصاره وأله، وأخْذِ نساءه وذريته أُسارى، فلم يعترض بل احتسب امره عند الله، صابراً راضياً بقضاء الله وقدره (ورد عن سيّد الشهداء (عليه السلام) في اللحظات الأخيرة من حياته حينما كان يتمرّغ في الدم والتراب: «رضاً بقضائك وتسليماً لأمرك لا معبود سواك).
في معارك المسلمين الأخرى عندما كانوا يذهبون الى المعركة فهم بين اثنين (النصر أو الشهادة)، أما في هذه الملحمة فليس هناك الا الشهادة، كذلك فان في معارك المسلمين الأخرى كان يأتيهم المدد من الله سبحانه وتعالى (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال: 9]) اما الحسين فجاءه المدد ولم يطلبه بل رفضه، وَرَدَ عنه (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ بعد أن تفاقم الخطب أمامه في كربلاء، واستشهد أصحابه وأهل بيته: «هَوَّنَ عَلَيَّ مَا نَزَلَ بِي أَنَّهُ بِعَيْنِ اللهِ».
لان بطلها (من خلال تعامله مع اهل بيته وانصاراه وحتى أعداءه) بيّن أخلاق الإسلام وأنه دين الرحمة والعدالة والجود والكرم والصبر والتضحية، والطاعة لله وحده، وأن الانسان حر الاختيار.
لآن بطلها أراد أن يتمم رسالة جده ويبين للعالم أن هؤلاء لا يمثلون الإسلام بل هم عادوا الى ما نهوا عنه من اعمال وافعال الجاهلية، فهم كفار وان تكلموا بكلام المسلمين وهم وحوش وان تصورا بصورة الادميين.
ورود الأحاديث الشريفة بأحياء ذكره، وزيارة قبره، واقامة المآتم والتعازي وقول المرثيات، مع إظهار الحزن والاستنكار للجريمة البشعة التي قام بها طغاة عصره.
الكرامات التي حصلت للرأس الشريف ونطقه الشهادة وحديثة وهو معلق على الرمح، والكرامات التي ظهرت لزوار قبره الشريف في كربلاء، من شفاء المرضى وقضاء حوائج المحتاجين، وهلاك كل من هدم قبره الشريف من الحكام الظالمين.
نستطيع القول إن هذه أهم الخصائص التي امتازت بها هذه الملحمة عن غيرها من الملاحم من وجهة نظر المسلمين، لكن يا ترى لماذا خلدّها غيرهم؟ حتى ممن لا يعتقد بوجود الخالق؟
مميزات الملحمة الحسينية من وجهة نظر غير دينية:
أن الحسين تكلم معهم بلغة العقل وأحتج عليهم به، فان كنتم مسلمين فانا الحسين، تعرفون نسبي وحسبي واسألوا من لازال فيكم حياً يرزق، يخبركم ماذا سمع من نبيكم فيَّ وفي أخي: (الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة) (الحسن والحسين امامان قاما او قعدا). هذا خطابه لهم كمسلمين فان لم تكونوا كذلك (يعني غير مسلمين) فما ذنبا؟ لقد دعوتمونا لتنصرونا فعدوتم علينا تقاتلونا! وهذه كتبكم التي كتبتموها الينا: أن أقبل يأبن رسول الله، فان عدلتم عن رأيكم فدعونا نعود من حيث اتينا. لكن هيهات لهؤلاء الوحوش ان يحتكموا الى لغة العقل (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ [البقرة: 171]).
أن الحسين وأصحابه أعطوا درساً للبشرية في كيفية الدفاع عن المبدأ وإن كان في ذلك هلاكهم.
أن الحسين وأصحابه أعطوا درساً في بيان معنى الوفاء ونقيضه الغدر وبيان ذلك بأوضح صورة.
رسم الحسين ملامح القائد والأب الروحي للجماعة التي يقودها، فقد صارحهم بكل شيء حتى انه أخبرهم بنتيجة المعركة، ثم جعلهم في حلٍ من بيعته، بل طلب من العدو امهاله ليلة لعله يتمكن من كسب الوقت لانسحاب أنصاره (إنما القوم يطلبونني)، لكنهم رفضوا وأصروا على البقاء.
بينت الملحمة قساوة الجهل والظلم الذي لا يميز بين صغير وكبير، طفل او شاب او عجوز، والقتل العمد بأبشع الاشكال، والتمثيل بالجثث وحز الرؤوس وحملها على الرماح... يا الله هل هؤلاء بشر مثلنا؟! والله هم ليسوا مثلنا وان تشابهت الصور.
أعطى الحسين علامة ظاهرة لكل ذي لب: أن من يفعل أفعال هؤلاء الوحوش هو منهم وإن اختلف الزمان والمكان. وما داعش عنا ببعيد.
كان مع الحسين من يخالفه في الدين والرأي، وهو بهذا أعطى شموليه لملحمته وأن القضية اعلى من الانتماءات والولاءات.
الخطاب الوجداني للملحمة، كن من تكن فأنك عندما تسمع ذكر الملحمة أو تقرأها ينتابك الحزن وتبكي وتتعاطف مع ابطال هذه الملحة. كما حصل في قصر المجرم يزيد والمجرم بن زياد عندما تحدثت بطلة كربلاء وعقيلة الهاشميين زينب الحوراء وأخبرت الناس بما جهلوا بواسطة الاعلام الاموي الضال والمضل.
معجزات القبر الشريف:
كلما قام أحد الطغاة بهدمه، قام بأعماره أفضل مما كان وهو من الصاغرين.
يعتبر قبره الشريف وأخيه العباس من أكبر البنايات وأغلاها في العالم، من اين كل هذه الأموال؟ من سخّر هذه الأموال وهؤلاء الخدمة لهذا القبر؟ أسئلة محيرة لا يجد الاجابة عنها إلا من أمن بأن الحسين ثأر الله وأبن ثأره.
على مدار الأيام والساعات، السنين والاعوام، يقوم ثلة من المؤمنين بالقضية الحسينة بأعمار الضريح الشريف والقيام بتوفير أفضل الخدمات لزوار القبر الشريف. يا ترى هل هم مجبرون على ذلك؟ هل يتقاضون اجوراً؟ كلا... (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سبأ: 47)
المسير لزيارة قبره الشريف في كل عام في العشرين من شهر صفر بما يعرف بالزيارة الاربعينية، التي تعتبر من المعاجز المستمرة والظاهرة والواضحة لكل من القى السمع وهو شهيد، أكثر من 20 مليون زائر، يأكلون ما لذ وطاب من الطعام، وينامون ويشربون ويغتسلون لمدة 20 يوم، وكل ذلك مجاناً، لا يكلف ميزانية الدولة فلساً واحداً، بل يعود أصحاب مواكب الخدمة يبكون حزينين يعتذرون من التقصير في حق إمامهم الشهيد المظلوم، يبقون في لهفة ينتظرون مجيء العام المقبل لكي يخدموا هذه الجموع المباركة. ترى من سخرهم لهذا الامر؟ ومن أعطاهم القوة البدنية والمالية؟
بقي شيء...
أدعوا جمهورية مصر العربية لإتاحة الفرصة وفسح المجال لأنصار الحسين (عليه السلام) لإقامة العزاء والزيارة لضريح الرأس الشريف في القاهرة، وأنا أعدهم بنهاية مأساتهم السياسية والاقتصادية (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96]).